شتا والمدينة التي ترفض النظام

Hisham Achkar

حضّرنا لها في أربعة أيام، لم نعرف بعضنا البعض من قبل، اختلفنا كثيراً، واتسمت الاجتماعات بصراخ ذكوري،استطعنا بما أمكننا من حيلة ورجاء، أن نخفّف منه. ثم حصلت. مظاهرة ضد الطائفية والعنصرية والإستغلال. و لم نكن نتوقّع لا المطر ولا العدد ولا الوجوه.

كان المطر حائطاً سميكاً صباح يوم الأحد. وصلنا إلى كنيسة مار مخايل، أربع فتيات و شاب، أعيننا تعبة من سهرة البارحة في الغرفة الصغيرة نحضّر الأغاني و نقصّ الشعارات ونتابع كلّ دقيقة ازدياد الحاضرين على صفحة الفيسبوك. “يا فتّاح يا عليم…هلّق بيوقّف الشتا”. وقفنا على التقاطع بين الشياح وعين الرمانة.بضع عشرات من البنات و الشباب الذين نراهم في الحمرا.عال. “عالقليلة هول إجو، مش رح نكون لحالنا”. و بدأ العدد بالازدياد شيئا فشيئا.

كنا واقفات على التقاطع، والناس من حولنا يسألون و المخابرات أيضا. وكانت منطقة مار مخايل، مكان اللقاء، اختيارنا بعد عدّة مشاورات لأنّ للمكان ذكرى في عقول اللبنانيات و اللبنانيين. فهو الحرب الأهلية و نهايتها، وهو الفصل بين جزئي المدينة –الغربي والشرقي- وامتداده إلى العقول. في المكان الذي ركنّا فيه السيارة، في الشارع الخلفي للكنيسة، بدا الزمان و كأنه متوقّف. تجاوزت حدوده حركة المدينة، وجلست أنظر ببطء إلى انهيار المباني وأثر القصف في الحيطان. وفي الخارج، ينتظر الشابات والشباب بداية المظاهرة ضد هذا الشارع.

الساعة الآن الثانية عشرة، موعد تحرّك المظاهرة، و”كبست”.

لم أصدّق عيناي. “أتمزح معي؟”، نظرت إلى السماء. وبدأنا التحرّك، ونتيجة الاحتباس الحراري برمّتها تهطل علينا. لم نكن قد مشينا مئة متر وكانت ثيابنا كلّها مبلّلة ولكن الناس يتقاطرون من دون ملل. وبدأنا نرى وجوهاً غير مألوفة، أي غير الذين يظهرون دائماً في كل المظاهرات. يعني أناس عاديين، لا نشطاء سياسيون ولا حزبيون ولا نشطاء سلام وعدل… بل أناس وصل فيهم القرف من الوضع حدّ نزول الشارع نهار أحد ممطر. إنجاز! وهو ليس إنجازاً لنا أو لكل من يطرح سياسات بديلة، بل هو إنجاز للنظام الطائفي والسياسات اللإقتصادية النيوليبرالية التي حرّكت الناس وأوصلتهم إلى حدود المحتمل. ولكننا ربّما نطلب الكثير من سائق السرفيس واللاجئات الفلسطينيات وربّات المنازل والعمال السوريون والمياومون وعاملات وعمّال المصانع وغيرهم من الطبقة العاملة للإنضمام إلى مظاهرة. لقد أهلكهم هذا النظام وفي الكثير من الأحيان حرّم عليهم حتى حريّة الخروج إلى الشارع، كما هي الحال عند العاملات الأجنبيات في المنازل.

ومشينا تحت المطر. في منتصف الشارع بين الشياح وعين الرمانة، طلبت مني صديقتي في لجنة التنظيم أن أطلب من فتيات وشباب التنظيم في آخر المظاهرة أن يسرعوا. فعدت أبحث عن آخر المظاهرة…ولم أجدها.اتّسع الحشد وزاد إلى أن غطّى كل الشارع. وعندها فهمت حقيقة ما فعلناه، و ما فعله الذين قرّروا النزول إلى الشارع في البرد. كانت المدينة بناسها وأزقّتها وشتاؤها وزحمة السيارات والماء المتدفق من المجاري ولون الشجر على الرصيف… كل هذا كان يرفضهم.

وأكملت المظاهرة المسيرة. كنيسة مار مخايل-الشارع الفاصل بين الشياح و عين الرمانة-دوار الطيونة-الشارع المؤدّي إلى العدلية-العدلية-تحت جسر العدلية أمام السجن الذي يجمّعون فيه المساجين الأجانب ذوي البشرة السمراء ليعذّبوهم ويعذّبوهنّ. هذا كان مسارنا. من مكان ذكرى الحرب الأهلية، عبر حدود الانسلاخ المستمرّ بين الطوائف والأديان والطبقات إلى مركز السلطة و القانون والسيطرة والقمع والعنصرية. مررنا عبر أهم مشاكل النظام والمجتمع اللبناني، عبر ما ارتأينا أنه ذاكرة حيّة للمدينة وناسها، ستحمل ذكرى مرورنا فيها ورفْضنا استمرار القمع والسياسات الاقتصادية الظالمة وغياب العدالة الاجتماعية. ومشينا نكلّم الناس و ندعوهم إلى الانضمام إلينا.

مشينا ورسمنا على الحيطان ما نراه في الغد: رفض العنصرية والطائفية والاستعمار والقمع. رشّينا على الحيطان في وضح النهار، في مدينة لا ترفض لنا شيئاً، ويجعلون هم منها معسكراً للقهر.

 

  

Publisher: 

Sawt al' Niswa

Section: 

Featured: 

Popular post

Our portfolio

We wouldn't have done this without you, Thank you Bassem Chit - May you rest in power.

Copy Left

Contact us

Contact Sawt al' Niswa via:

You can also find us on: