تظهر بين الحين والآخر نشاطات في بيروت تسلّط الضوء على قضايا الحريات الشخصية والمثلية في محاولات مستمرة لمخاطبة الرأي العام والعالم بشأن ضرورة تغيير التعاطي الرسمي مع المثليون/ات وكل مَن لا يصنف/تصنف نفسه/ها ضمن الأنماط الجندرية/ الجنسية السائدة. غالباً ما تجد هذه النشاطات بالاضافة الى المجتمعات الافتراضية المعاشة على الإنترنت نفسها في مأزق الانعزال عن الواقع اللبناني أو في مأزق استعمالها كمواد إعلامية مثيرة للجدل، كثيراً ما تتعاطى مع اختلاف المثليين والأشخاص ذوي الحريات الشخصية غير السائدة كمادة للترفيه.
إذا أمعنّا التدقيق في السجالات القائمة حول مواضيع المثلية الجنسية والحريات الشخصية، نرى أنّ النقاش (الذي لا يبغي الترفيه ) يبقى محصوراً في مجتمعات افتراضية وبين الأكاديميين والناشطين في المجال نفسه، ويظهر إلى العلن بشكل أفعال مجهولة المصدر تصدم الرأي العام براديكاليتها أو عدائيتها، كونها وعلى قدر نجاحها في تثبيت واقع وجود الاختلاف، لم تنجح قط في إخبار القصة/ الرأي الكامل وراء الأفعال هذه…
هوية قيد الدرس
يعيش المثليون والمثليات في المجتمع اللبناني في حالة شك دائمة بسبب وضع هويتهم الجنسية في موضع تساؤل عن أسباب مثليتهم وإن كانت ميولهم الجنسية دخيلة على الثقافة العربية/ اللبنانية ام متآصلة فيه. فالمثليون من الرجال في حالة إثبات دائما لرجولتهم والتي غالبا ما تعني الانصياع التام لهوية ذكورية في بنائها وسلوكها مربوطة بأدوار جندرية تقليدية، وعادة ما ترى المثليات اللبنانيات انفسهن خارج موضع الشك هذا بسبب القيم الذكورية هذه، وربما القيم هذه ما تدفع بالمثليات في القدرة على رؤية هويتهن الجنسية والجندرية كإناث بعين اكثر نقدية من المثليين الذكور غير القادرين على رؤية الامتيازات الاجتماعية والتي عادة ما تتحول الى لعنات اجتماعية على المثلي إذا لم يستطيع تفكيكها. الهوية الجنسية للمثليين عادة ما تشكّل أسئلة محيرة للمجتمع لأنها ترتبط بمفاهيم العائلة التقليدية النواة والتي تقسم الأدوار الاجتماعية في ما بينها والتي غالباً ما يعتبرها المجتمع -العائلة شبح موته.
الهوية الجنسية المختلفة عمّا هو سائد هي هوية قادرة على إرباك مجتمع في حالة جمود وقادرة على تحريكه في أكثر من جهة. هي تشكّل التحدي الأكبر لمفهوم السلطة الخفية التي تتحكم في أكثر تفاصيل حياة الفرد حميميةً و يشكّل اختيارها بشكل علني وصريح تهديداً لوجود هذه السلطة. لذا يلجأ المجتمع غير القادر على استعمال العنف المباشر والجماعي الى أساليب اكثر دهاءً لتمييع هذا التحدي، ويضع الهوية الجنسية المثلية وغير السائدة أمام فرضيات تربط المثلية الجنسية بأمراض عقلية أو يعزوها الى أفعال جنسية في مراحل الطفولة أدت الى استنتاجات خاطئة عن الجنس الآخر .
الأمر الذي يجعل المثلييات والمثليين في حالة دفاع منهك عن وجودهم. يبقى الدفاع عن الهوية الجنسية والميول الجنسية امراً يحق للمثليين الاهتمام به وتوعية المجتمع بشأنه ويستطيعون أيضاً رفض هذا التساؤل من أساسه والمباشرة في فرض هويتهم كم هم من دون أخذ مسبق، فمقاومة التغيير هو أمر تجيد المجتمعات القيام به ولكن قلما تنجح فيه.
مواطنون/ات مثاليون/ات = المثليون/ات
لدولة تقوم على توزيع معظم طاقتها على تأكيد نسبة الطوائف في مؤسساتها ومشاريعها مواطنين حريصين على تذكيرها بالعدل فيما بينهم من مواقعهم الطائفية، لا عجب إذا كانت الدولة بجميع أجسامها وممثليها ومؤسساتها وقوانينها في حالة إنهاك دائم ولا طاقة لها و حيل على هضم نقاشات ومطالب غيرمتعلقة بطوائفها و غير قادرة على تهديد السلم الاهلي. لذا، غالباً ما تستطيع الدولة تجاهل مطالب هؤلاء واستعمالهم حين الضرورة للترهيب، ففي واقع يعيش طوال الوقت على حماية العيش المشترك وديمومة النقاء الطائفي، يتحول المثلييون والمثليات الى المواطن المثالي في عيني الدولة المنهكة، إذ أنهم غير قادرين على اللجوء اليها وقت استضعافهم ولا يستيطعون تهديدها من مواقعهم المطلبية وغير الطائفية، فيتحولون إلى مواطن عاجز تماماً كدولتهم التي لا تستطيع إلاّ أن تبسط سلطتها على أؤلئك الذين/اللواتي يعيشون في البقع الرمادية التي تصل جزر الطوائف الملونة ببعضها البعض.
التضحية من المعاني المتلازمة لكلمة لبناني، فمنذ الولادة يضحي أي مولود/ة لبناني/ة بخيار أن يكون حراً في الخروج من الطائفة التي ولد/ت فيها وحتى لو اختار ذلك فهو سيضحي في الطائفة والانتماء. على الأرجح أن المثليين والمثليات خارجين طوعاً عن طوائفهم، فالطائفة في أغلب الأحيان تبقى القاسم المشترك الأخير في العلاقة المثلية. من جهة أخرى، الطوائف غير قادرة على محاربة المثلية في “عقر” دارها، بل تضحي بالمثليين والمثليات وترميهم خارج أحضانها اذا لم يخرجوا طوعاً، فيتحول المثلي إلى الثمن التي تدفعه الطائفة من نفسها كي تؤكد على تقليديتها وعدم تغيرها.
المثلية بالإضافة الى ما تأكده عن الاختلاف في الهويات الجنسية و ما تلتف إليه من تركيب للأدوار الاجتماعية، هي مثال غير مفبرك عن العيش المشترك وتقبل الاختلاف. العلاقة المثلية مثال حي على أنّ الأفراد في لبنان قادرين على التخلي عن الطوائف حالما يجيدون البديل الحقيقي وحيث يجدون أنفسهم حقيقةً، هم وجميع من خرج عن سلطة الطائفة وتمرس في الفضاءات التي خُلقت من تضحيات عدة أولها الخروج من الوطن الطائفة إلى الوطن المؤجل تحقيقه.
العيش تحت شمس ٥٣٤
لم يقصّر الناشطون والناشطات في العمل على إزالة التمييز القانوني والمجتمعي من خلال طرح العديد من الموارد التى ترد على جميع الأسئلة المتعلقة بالمثلية الجنسية رغم سخافتها أحياناً واستفزازيتها مراراً، كما لم يقصروا في خلق المساحات الاجتماعية والآمنة لمئات الوافدين من مخابئهم الى أرض المثلية الرحبة. ولكن، وعلى الرغم من محاولتهم ومطالبهم المحقة، ما زالت المادة ٥٣٤ من قانون العقوبات المحرض الأساسى للتمييز بحقهم. المادة بعينها لا تردع المثليين عن ممارسة الجنس ولكنها تردع المثليين عن رفع وصمة العار عنهم وتساهم بشكل أساسي في حماية من يعتدي على المثليين والمثلييات ويرهبهم ويسرقهم ويغتصبهم وينكّل بهم. تحول المادة الوطن بأكمله إلى زنزانة سجن واسعة يعاقَب فيها المثليون/ والمثلييات كيفما كانوا ويتحول المواطن الخاضع إلى سلطة الطوائف إلى مطبق للقانون حينما يشاء. تحت شمس ٥٣٤، تصبح حياة المثليين حياة العيش في بقع هنا وهناك، تارةً للإختباء وطوراً للاستجمام، ريثما يجدّ أمر ما، أمر إما يعيد المثليين والمثلييات الى سابع أرض أو يستمرون في عيش حياة متقسمة متشرذمة غير قادرة على أخذ نفسها على محمل الجدّ. الوقت المستقطع الذي يعيشه المثلين والمثليات في لبنان من ذهب ويجب الاستفادة منه للاستعداد من أجل المستقبل.
Publisher:
Section:
Category: