(حصل خلال مظاهرة لإسقاط النظام الطائفي في جبيل-)
كنّا كثيرات، وكانت فتاة تصرخ على الميكروفون “عالطائفية – ثورة” و “عالمحسوبية – ثورة“..وبقيت هناك، أصرخ وراءها، وأنتظر. ولكنّها لم تصرخها..فاستجمعت قواي وصرخت “عالطائفية” فردّوا “ثورة“، “عالعنصرية” كمان،“ثم “عالذكورية“…”لأ لأ، شو هيدا؟ّ” ونظرات قامعة اشمأزّت من تعصّبي تقول “عيب“.
ذهبت إلى رفيقاتي ومجدّدا استجمعنا قوانا. أقلّ من عشرة كنّا، “عالعنصرية“، “عالذكورية“، “على التلطيش“…ردّدناها مرارا، وبدأ عددنا يزداد، وصوتنا يصبح أوضح، أقوى وأكثر مواجهة لعنفهم. وبدأت الأنظار تتّجه إلينا أكثر واكثر، والدائرة تكبر حولنا، فتنضمّ إلينا من تريد، وينفر منّا ويبعد من “أخافه” صراخنا. وصرت أسمع عدّة تعليقات “إنهنّ مثليّات“. طبيعيّ! فلا يمكن أن تكون النساء “الطبيعيات” هن اللواتي يطالبن بإسقاط الذكورية. كأن المعاناة هي ليست معاناة كلّ النساء. إننا كارهات الرجال إذا، الغريبات، الخارجات عن القانون والمنطق. ذكورية؟ أية ذكورية؟ وامتعض البعض. تحسّست رجولتهم الممزوجة بالذكورية، وأحسّوا بمغص جندري واعتداء سافر على شوفينيتهم.
وما لبث الهتاف أن انتهى حتى اقترب منّي رجل خمسيني، اخذني على حدى وشرع يحاججني.سألني، بكل استغراب “أية ذكورية ؟” فأجبته “الذكورية الموجودة في مجتمعنا، في القوانين، وحتّى في هذه الحركة الشعبية، نضطرّ نحن النساء إلى الصراع لجعل صوتنا مسموعا في الاجتماعات والتحرّكات“. فقال “غير صحيح، فهذه الذكورية لم تعد موجودة في أيامنا هذه. هي اختفت إلّا من المجتمعات المتخلّفة” فقاطعته قائلة أني لست بصدد الحكم على تخلّف المجتمعات أو عدمه و لكنني أعرف وما زلت أعيش اضطهاد المجتمع لي ولأخواتي النساء. وهنا بدأت محاضرة عن الذكورية وغيابها وعن معنى تحرّر المرأة وحدوده وتأثيره على ألانفلات الاجتماعي. هي محاضرة لامرأة عن المرأة من رجل، لا تستطيع فيها هذه المرأة التي هي أنا أن تنبسّ ببنت شفة لأنه، الرجل، يعلّمها عن.. نفسها. “لماذا تتكلّمن عن الذكوريّة؟ لا يجب أن تبالين بها، أنتم تعطونهم أهمية بكلامكن عنهم، خلص تجاهلوهنّ!” أحسست أنه كان يستغبيني، رغم أنه كان من الظاهر أنه يتكلّم بصدق.
وانبرى يفسّر ويشدّد على أهمّية التوعية والتفرقة بين حرية المرأة والانفلات. “فعلى المرأة أن تتحرّر، ولكن لا أن تلبس السترينغ و ان لا يكون ظاهرا من تحت ثيابها. تصوّري أن تأتيني امرأة تحاورني لتطالب بالحريّة وهي تعيش مساكنة مثلا!” كل هذا وأنا أطأطأ برأسي، فقد كنت قرّرت بعد دقيقة ونصف من بدأ الحديث بأنه من النوع الذي يريد أن يتكلّم لا أن يسمع وأن نقاشي لن يجدي. كان مضحكا ربطه –كما يفعل الذكوريون عادة- لتحرّر المرأة بما يريده هو وما يراه هو مناسبا.
وشرع يتكلّم إلى أن أتت صديقتي تنقذني.
اريد هنا أن أفنّد نقاط تعدّيه عليّ وعلى حقّي برسم شكل صراعي وأهدافه.
كان الخطاب مضحك-مبك. لم يكن هذا الرجل يناقشني أو يسألني عن تجربتي كامرأة، بل كان يوضّح لي، يعلّمني، ويحاضر للمرأة عن المرأة ومعاناتها. كم كان غريبا أن لا يرى أن خطابه بحد ذاته ذكوري: هو في موقع القوة يوضح للمضطهدة كيف يجب أن يكون شكل مقاومتها…ربّما هي عاجزة عن فعل ذلك لوحدها لأنها ليست رجل.
أولا، بدأ الرجل خطابه بنفي فكرة الذكورية من أصلها، وبأن وجودها عرضي وهو ليس القاعدة وبأنها ليست الإشكالية الأساسية التي يجب على الحراك النسوي أن يقاومها .
إن أي صراع تحرّري في العالم يتطلّب معرفة العدو ولكن الأهم هو الوعي على فعل الاضطهاد بحدّ ذاته. فإذا لم يكن شعب ما أو مجتمع ما يرى ويعي اضطهاده، لا يستطيع أي شخص أو جيش أو قوة ضاربة أن تحرّره. فاعرفي أنك مقموعة وأنك محرومة وأن التحرّش الجنسي ليس “عاديا” لأن ثيابك كشفت شكل جسمك، وأن تحكّمه بك في المنزل والعمل وفي الشارع ليس “عاديا“، وأن عدم أخذ رأيك عند أخذ القرارات ليس “طبيعيا“، وأن ربط الشرف بك وكون كلمة “عيب” تتعلّق بتصرّفاتك ليست أشياء “عادية” أو “طبيعية” أو “إلهية“، وبالتالي فإن رفضها ليس ممنوعا.
ثانيا، راح ناصحي يشرح لي حدود الحرية التي يجب أن تعطى للمرأة ونوعها، وكيفية المطالبة بها.
تماما كما يفعل كلّ قويّ على هذه الأرض، فهو ينصح الضعيف بضرورة التعامل “اللاعنفي، المتحضّر، الراقي، الذي لا يخيف الآخر أو ينفّره.” كان المضطهد هناك يضطهدني مجددا، بإعادة أنتاجه لتركيبة القوى وبوضع المرأة مرّة أخرى في خانة المفعول بها،حتى في مسيرة تحرّرها.
أقولها ردّا على “نصائحهم” لنا. إنها قضيّتي أنا، و أنا أسمّيها وأنا أرسم نهايتها وأدوات الثورة فيها. وما عليك إلا أن تصمت وتصغ، أصغ الي مرّة. لن أكون متحضّرة ولن أكون راقية ولن أستعمل كلمات منمّقة تحمي شعورك، لن أعتذر ولن أكون مهذّبة وسأستعمل العنف متى أريد، وسأخيفك لأنني سأكون مدويّة كالأرض سمراء قاسية فجّة، وسأكفر بك وفي ظلّ ذلك كلّه سيكون رأسي محنيا،وارعا. لأن سخطي ليس كحنقك ولأن ثورتي لي وللأرض وللحياة، ولأنك يوم تراني ثائرة ستعرف أن ثأر كل امرأة تعذّبت جاء ليلفظك.
Publisher:
Section:
Category: