سبعة وشويّ:
تتصل ماما بهاتفي.
– الو؟
-وينك؟ تعي هلق عل البيت
-ماما، شو في؟
- تعي عل بيت وخلص. (تقفل الخط في وجهي)
أتجاهل “طبشة الخط” وأذهب الى الحمراء لألعب “دء داما”. – لا أدري لما أتجاهل فكرة اني سأعود على الحالتين الى طريق الجديدة، وكلما بكّرت في العودة، كلما أفضل، الوضع اصلاً متوتر منذ الصباح وأنا أصلاً، خرجت من طريق الجديدة من جراء هذا التوتر- العب “الداما” وتخسريني “ل.” مرتين. على الطاولة قربنا، أحدا ما يتكلم عن إغلاق الطرقات- كولا/عبدالناصر-.أقرر العودة الى المنزل.
٨ وشويّ:
أقف على تقاطع مودكا – ويمبي (سابقاً). سيارات السرفيس كنّمل، اشعر بسعادة.
– سرفيسان ع أبو شاكر
- روحي عمي.. (ويمضي)
-سرفيسان ع أبو شاكر
- لا والله، الدنيا قايمة قاعدة (ويمضي)
-سرفيسان ع ابو شاكر
-ها؟
- ابو شاكر عمّو، سرفيسان؟
(الزمامير تعلو وتصدح ويمضي في حال سبيله)
أحاول أن أمنع نفسي من التوتر، وأؤكد لنفسي إني لست غادة السمان. يسألني سائق سرفيس ويقطع حبل افكاري: ل وين؟
– عشرة الالاف، ابو شاكر.
-طلعي.
في المقعد الخلفي، أجلس كملكة فقدت عرشها منذ زمن لكنها لم تفقد برستيجها، قبل أن أبادره عن الاخبار، فتح الراديو.
- ليكي عمي، عم يحرقوا دواليب والجو متوتر عل الاخر، يعني بيمشي الحال ع الكولا؟
- كيف يعني عل كولا عمي؟ ما قلتلك عشرة الف مشان ما أمشي؟! ( أعلم، ان المشي في هذه اللحظات هو فعلا آخر همّي، وأعلم إني في قمة الحقارة وانا اطلب منه تعريض نفسه للخطر رغم ان اطلاق النار لم يكن حتى بدء، ولكن الخوف شعورٌ حقير جدا، يجرد الشخص منّا من التفكير السليم).
-ع التيسير، بس والله الطريق مقطوعة وانا والله بدي وصلك وروح ع بيتي يا عمي، الله يقضي هل الليلة ع خير والله ما اشتغلت اليوم…
- هلق منشوف عمو، نشالله خير ( في داخلي، اشتعل من الغضب، عليه وعلى الطرقات وعلى أمي وعلى انتقالي الحديث الى المنطقة وعلى غلاء الايجارات وعلى الله وعلى طريق الزفت وعلى الحزب والحركة والاسد..).
قرب مقهى الجوندول، يتوقف السائق ونحن الاثنان ننظر بكامل الذهول الى اللهب المشتعل من أمام جامع عبد الناصر، يلتفت الي ويقول لي سينزلني عند اقرب مفرق مؤدي الى عفيف الطيبي.
كأني اول مرة أمشي في زورايب عفيف الطيبي المؤدية الى الشارع الذي يصل عبدالناصر بساحة أبو شاكر، لا أحد في الشارع غيري والذعر يدب في جسدي واحس بأني امشي ولا اتحرك إنشاً. هي لحظة ما، اصل الشارع، الناس على الشرفات، السيارات متوقفة تماما، محلات تغلق، اناس تهرول مثلي، مجموعات من الشبان تقف على الجانبين، امشي في هدوء وسط هذا كله، احس بالامان فجأة، واتجه صوب الجامع لاصل الى البناية حيث تقطن أمي، يستوقفني شاب: هايييي! هاااي لوين نازلى من هون يا اختي مقطوعة الطريق وفي مشاكل”، قبل أن افتح فمي” بأني اولا لست بأخت له ” يسبقني جاري، “بنت المنطقة يا علي، بناية الفاعور”، يذهب الشاب الى مجموعته، وابتسم ابتسامة بلهاء لجاري ” يلا عجلي ع البيت، الوضع مش منيح”. امشي دقائق معدودات، أدخل البناية من المدخل الخلفي.
تسعة وتسع دقائق:
لا تحييني أمي، اجلس جنبها على الكنبة، واشاهد تلفزيون المستقبل واستمع الى مفتي عكار.
تسعة ونصف :
أحضر عشاء، بطاطا مقلية مقرمشة ومملحة، عجة بيض مع بقدونس وحر وبهارات، صحن من الخضروات والزيتون وإبريق شاي رأس الحصان وأكمل مشاهدة تلفزيون المستقبل، يطلب النائب المرعبي من قائد الجيش بالاستقالة، انظر الى أمي تحتسي الشاي، ولا يبدو عليها اي ردة فعل منما سمعناه. العشاء اللذيذ، اصبح سما في معدتي.
عشرة وشويّ:
أسمع إطلاق نار خفيف، لا أدري لماذا استوعب ما حصل مع جاري، أنا بنت المنطقة!؟ وإن لم أكن بنت المنطقة وإن كنت زائرة تحاول العودة أدراجها؟ بنت المنطقة، هل سأحمى، هل علي ان احس بالامان؟ بنت المنطقة. أتصفح المواقع ولا خبر عن إطلاق النار، التلفزيونات تبث برامجها العادية، ماما تسيطر على التلفزيون، رغم وجود خيار ان أشاهد ما إريد على التلفاز الاخر، الا أني أخاف من ردة فعل أمي ( اشارف الثلاثين، وعندي يقين ان امي لن تتردد بتصويب شحاطتها نحوي واي من إخواتي في حال تم إستفزازها). يتصل الاصدقاء، أُطمْئِن البعض وأحاول أن أستفسر إذا أحد منهم، يفهم من يطلق النار على من.
حدش الا شويّ:
تقف أمي على البلكون.
أودّ لو يبدء إطلاق نار حتى تدخل، أذهب اليها، وأرى مجموعتان غير مسلحتان في الحي، الاراكيل وتلفاز صغير موصول، النساء جميعا في أثواب الصلاة على البلكون، الكل ينظر بإتجاه الملعب البلدي، تدخل أمي لتتصل بمسؤول لجنة البناية لإغلاق الباب الرئيسي، تخرج إم رائد على السطح وتصرخ على إبنها” مصطفى” المعروف ب “كاسبن”، ليعود إدراجه، تطل أم “زياد” وترمي عليه شيئا ما ( يتضح انه جارور البطاطا)، يقع هو ومتوسيكله على الارض، كانت أمه قد وصلت اليه، تجره من ثيابه وهو يحاول إزاحتها عنه، ويعاونها الشباب وهي تدعي عليه بالموت، ” نشالله تموت، رايح تاكول رصاصة يا اين ش.) يدخلون بنايتهم و”كاسبن” يتلقى كفوف من أمه ومن شباب الحي. تسقط قذفتين، ادخل، مسرعة.لا يبلغ “كاسبن” أكثر من ١٦ عاماً.
أسأل أمي عن الشباب، هل هم تيار المستقبل؟ هل سلاحهم مُخبّئ. لماذا تركتهم “أم رائد” يضربون إبنها وهي التي يستطيع كل شباب الحي ذكر خمس مشاكل معها شخصيا بسبب إبنها وغلاظته.
تتحول أمي الى بروبجندا الحي، تنفي كون الشباب عناصر للتيار وامتلاكهم للسلاح. هم ينظمون أنفسهم في الاوقات هذه لحماية الحي من إي إقتحام، وايضا في حال دخل المسلحين الى الشارع. تقول لي ان الشارع خلال الحرب الاهلية قد عانى الكثير من الدمار، وقد عانى الكثير من المسلحين من أبنائه، وكأن كبار الحي ولو ربو أطفالهم على الطائفية، تعاونوا فيما بينهم كي ينشروا سياسة النأي بالنفس خلال الازمات، الحي هنا، واضح في خيار إبقاء العنف بعيدا، وكأنه يصبح ملجأً كبيرا للاحياء الاخرى. لا أدري إذا كنت أصدقها، أريد ان أصدقها. لكني لا أستطيع.
نص ليل الى ٣ وشويّ الصبح:
احاول النوم، لا أستطيع. صوت القذائف يمنعني من النوم، والرصاص يصبح أقرب. تخلد أمي للنوم ومع كل رشق رصاص، تأتي الى غرفتي، “نايمة؟”، اقوم معها واقتح لاب توبي واقراء الاخبار لها. ” استغفر الله العظيم ع هل الليلة” تقول وتقف في ردهة البيت وتقول لي، “رح قوم فوت نام..”. يتكرر المشهد مرات عديدة في هذه الليلة. أعتقد إني غفوت فقط لأن الرصاص توقف، حلمت طويلا وأفكار تداخلت بعضها البعض، حلمت أحداث المساء مجددا، حلمت بمسدسات ومخابرات سورية ورأيت “تانت نهى” ( والتي ترتبط بالحرب الاهلية في ذاكرتي)، حلمت بحركة أمل وإبي والبحر.
لم تنم أمي مبارحة جيدا، ولم تطلب مني ان ارتدي ” البيجاما” كي لا أنشر الجراثيم العالقة من الخارج على ثيابي في أرجاء البيت، لم تسألني عن عدد السجائر التي إستهلكتها كعادتها ولم تطلب مني النوم باكرا حتى لا تزيد “نقص الدرجات” في عيوني، لم تسألني أين كنت ولماذا لم أتي على الفور. لم تطلب مني ترتيب الغرفة ولم تسألني عن الاوضاع السياسية في البلد. لم تخبرني عن يومياتها واخر الاشاعات والنكات. لم تطلب مني ان ارتب غرفتي صباحا ولم تطلب مني ان أزيل كتابي من البلكون. جلست معظم المساء مبارحة واليوم صباحا، تقلب القنوات بهوس شديد، تتكلم مع نفسها: شاكر البرجاوي، ب ٧، اربي جي… لم تنم أمي مبارحة جيدا، في لحظة ما مبارحة نظرت الي ” هيك كنا نكون لما كنتو صغار وهيك شكلنا رح نكون لما صرتو كبار”.
* تم تغيير الاسماء للحفاظ على خصوصية الاشخاص.
Publisher:
Section:
Category: