منذ تصاعد شكل الاحتجاجات في بيروت، أصبح هناك متنفّساً لجميع حاملي وحاملات القضايا للتعبير عنها، وفي ذلك إنجاز علينا التوقّف عنده للتأمل فيه والبناء عليه في معارك لاحقة.
فمنذ تلك اللحظة، فُرض على جميع الناشطين والناشطات والمحتجّين والمُحتجّات وسائر الأشخاص الذين شاركوا في إشغال شوارع وسط البلد الفارغة، أن يذوبوا في حملات تشكّلت آنياً، من دون الدخول في نقاش معمّق حول فكرة أن تلك الهويات، في عمقها، إنّما تحاكي الخلافات الموجودة على مستوى التيارات السياسية في قطبيها، أي 8 و14 آذار . لكنّ هذا الذوبان كان ضرورياً لأنّه شكّل محاولة فصلٍ بين الكثير من الناشطين/ات وماضيهم/ن السياسي، وفي الوقت نفسه، كان مساهماً أساسياً في إعادة خروج مجموعات من جمودها وعزلتها، إمّا بسبب تجربتها ضمن التياريّن الأكثر تصارعاً، أو بسبب ابتلاعها من أحزاب أكبر منها في كلا الضفتين.
يمكن اعتبار الحراك ربيعاً ما لليسار ضمن قطبي 14 و8 آذار، وقد قدّم الأرضية المناسبة لتفعيل ذاته. لكن بالرغم من أن هذا الربيع كان ضرورياً، إلا أنه حمل معه أزمات كان الأجدى بها البقاء ضمن 14 و8، تحديداً تلك التي تمثّلت في بعض الشعارات التي أثرت في مستوى الخطاب في لحظة معيّنة. فمثلاً، "كلن يعني كلن" أم كلن يعني كلن ناقص البعض"؟. طبعاً، الشعاران يرتكزان على تصفية حسابات قديمة، وقد نفذا إلى الحراك إما بسبب هفوة، أو ضعف مسؤولية، أو عفوية.
فشكّل تضارب الشعارات هذه فخاً مُحكماً في الحراك نفسه وقع فيه المشاركون/ات، مّما أثّر على التضامن الذي كُنا نعول عليه جميعاً لمواجهة النظام الطائفي. كما أفرزت الشعارات شرخاً آخر في الحراك دلّ على عقبات أساسية في الخطاب السياسي، وأهمّها شرطية المشاركة في الحراك من خلال فرض الشعارات. فاشتراط" كلن يعني كلن" أو "كلن يعني كلن ناقص البعض"، يقول إن بعضاً من المجموعات غير قادر على التقدّم من معارك قديمة، ولا يستطيع النظر إلى الحراك بوصفه حالة جديدة من العمل السياسي، نستطيع أن نختبر فيها أدوات جديدة في التنظيم والعمل السياسيَّين ونبتعد فيها تماماً عن كل ما لم ينجح في أوقات سابقة.
لذا، هناك حاجة ماسّة للتفكير في الحراك لناحية امتداده، أي البحث في الفئات التي تتّخذ منه فضاءً للعمل السياسي، وتحييده في المقابل عن الأسئلة التي نعرف مسبقاً الإجابات عنها وجدواها على الحراك وضرورة التوقف عن استعمالها دون أي مبرّر. ففي الوقت الذي نحاسب فيه وزير الداخلية مثلاً، الى أي مدى يساعد أو يضرّ شعار كلن يعني كلن؟ وفي الوقت نفسه يُسأل، ما جدوى إصرار البعض على نفي شعار "كلن يعني كلن" من الحراك من حيث المبدأ؟ وإلى أي مدى يؤكد هذا النفي والإصرار على تحييد بعض من الرموز من حيث المبدأ، لا من حيث الأدلّة على ضعف الخطاب المستقل، وإعادة إنتاجه لتبريرات تتشابه في الأصل مع تلك التي يطلقها الطائفيّون في معرض تحييدهم لزعمائهم وإعفائهم من مسؤولياتهم في ما آلت إليه بلادنا.
رغم هذا، نجحت الحملات في التحرّر من الخطاب الطائفي، وهو ما ضمن الحشد في لحظات كثيرة. غير أنها لم تنجح على أصعدة عديدة في التخلص من التوتّر القائم على أخطاء وسلوكيات لطالما كانت موجودة، وأعاقت نجاحات عدّة في حملات سابقة مثل "إسقاط النظام الطائفي ورموزه".
وقد كنت أود أن أرى في هذا الحراك تنحّي بعض المخضرمين عن مراكز القيادة، وتحديداً القيادة من المقعد الخلفي، وسلوكيات أقل بطوليّة ...، وأن أسمع تجديد الخطاب السياسي ليتوافق مع الحاضر الآن، لا حاضر الحرب الأهلية، تحديداً عند اليسار. والأهم مثلاً، القدرة على التخلي عن حلفاء زمن الحرب، وإيجاد حلفاء زمن السلم. فمثلاً، اتفقنا جميعاً على مقاومة العدو الإسرائيلي المحتلّ، وقاتلناه سوياً وقت الحرب، وشكّلنا جبهة وطنية واحدة (أوجّه كلامي طبعاً لليسار)، غير أنه لا يجوز الاتكاء على الماضي وضرورته والقبول بمحظوراته في المستقبل، من خلال استمرار التحالف مع حركات أصبحت واضحة الطائفيّة، أو أنظمة واضحة الفاشية والديكتاتورية، أو تلك التي ترى الدول الإمبريالية قضاء وقدر.
شكّل هذا التوتر بين الحملات، في لحظات ما، نقطة قوة، انطلاقاً من مبدأ التنوّع والتفاعل مع المُختلف. وأصبح الحراك طيفاً قادراً على استيعاب كل الحملات بتناقضاته، خاصّة في أشد اللحظات والأوقات التي كان فيها هشاً من جراء استخدام السلطة أدوات ترهيبها ضدّه، من خلال الاعتقالات غير المبرّرة، وتسامح قوى الأمن مع ظهور ميليشيات وتعدّيها على المتظاهرين/ات، وسياسات الترهيب في أعداد عناصر مكافحة الشغب ولباسهم وعدم انضباطهم في الكثير من الأوقات، والعمل الممنهج على تخوين نجوم الحراك، بالإضافة إلى محاولة التعامل مع الاحتجاجات من منظور طائفي للإيحاء بأنّه يركّز الهجوم على طائفة وزرائها دون الأخرى. كلّ هذه الأمور استطاعت الحملات تخطّيها، والأهم من ذلك، قدرتها على إعادة بيروت –البلد إلى صلب الحراك ونقض واقع أن الناس استسلمت لسوليدير وسلّمت لها. غير أن الحراك وقع في فخ تنوّعه حين تعامل مع هذه التنوع من مبدأ السباق والأسبقية إلى شعارات فائقة الهشاشة و الطنين، وفي لحظة ما، غطّى تناقض الشعارات ما تحقّق من الإنجازات، ولم يتمّ احتساب تأثير الشعارات هذه على الحراك نفسه في المستقبل. وقد كان من المفيد أن يتمّ التعامل مع التنوّع كنواة لتشكّل تحالف جدي مبني على الحاضر ولا يستكمل الماضي، لينضوي تحته الجميع ويتمّ فيه الاتفاق على فتح الملفات بالطريقة التي تخدم الحراك والذي يتفق الناس على أنه يحمل هاجس التغيير.
وسط كل هذا، كانت النساء متواجدات في الفضاء العام، وقد قامت الكثيرات من النسويات في الحملات المختلفة بتحدّي مفاهيم وسلوكيات أبوية وتقليدية، كما كان هناك اندفاع لدى الكثير من المجموعات إلى تبنّي مواقف نسوية متعلّقة بقيادة النساء للمجموعات، والارتكاز على الخطاب النسوي القادر على خلق رابط مع الفئات الأكثر تهميشاً والأقل تمثيلاً في الحراك. غير أن الخطاب هذا، وعلى أهميته، لم يستطع أن يجعل من الحراك فضاءً صديقاً للنساء بشكل عام، أو للنسويات بشكل خاص، خاصّة وأن توترات 14 و8 آذار اليسارية لم تترك حيزاً لخلق خطاب منفصل عنهما. وقد كان تعامل الحراك مع النسويات ديبلوماسياً في الدرجة الأولى، ومعاكساً تماماً لما كان يحصل من عزل وتطفيش ممنهج للنسويات في "حملة إسقاط النظام الطائفي". فالكثير من المجموعات رحّبت بتواجد النسويات، من باب الترحيب بالضيوف، أو تجاهلت النسويات كفئة مستقلّة من مبدأ أن تواجد النساء في المجموعات كافٍ ولا حاجة لإعطاء مساحة إضافية. ينضوي هذا التصرّف مباشرةً تحت إطار المفهوم الأبوي الذي يصرّ على تصنيف النساء إلى فئتين: الجيدة والسيئة. وطبعاً، النساء الجيدات هن اللواتي يُجبرن على التماهي مع القيم الأبوية من أجل المحافظة على المساحة التي يمتلكنها. وفي اللحظات التي كان بإمكان الحراك فيها أن يعبّر عن موقف متضامن مع النساء، وذلك عقب حوادث التحرش التي تم توثيقها، فهو إمّا ردّ بالتشكيك المطلق، أو بالصمت التام، وفي الحالتين أفصح على أنه غير قادر على التعاطي مع القضايا النسائية بشكل تقدّمي. وقد لعبت السلطة دوراً هاماً في ذلك. ففي استعمالها للعنف المباشر، وبصفتها نقيض الحراك بمعنى أو بآخر، احتكرت السلطة العنف وطرائقه، فأصبح العنف الرمزي الذي يقوم به الحراك على النساء فيه، غير مرئي وبالتالي غير موجود، لأنه لا يشبه عنف السلطة.
إنّ تعامل الحراك مع الحالة النسوية يمكن أن يتحوّل إلى درس مفيد حول كيف يمكن خلق حراك قادر على استيعاب الجميع، وذلك من خلال تنازل البعض عن حجم المساحات التي يحتلوّنها، سواء في الفضاء العام أو في السياسة، وكيف يمكن أن تتقاطع القضايا دون أن تُختزل بشخص أو مجموعة.
كل ما سبق يدفعني إلى الإيمان بضرورة إعادة النظر في ما يمكن الحراك ومجموعاته اليسارية والليبرالية تعلّمه من النظرية النسوية والأدوات النسوية القادرة على مساعدة الحراك في اكتشاف نفسه أكثر، والعمل على مبادئ مشتركة ترتكز على خلق حركة يستطيع أيّ كان امتلاكها. حركة لا تعتمد على تكرار الأخطاء الماضية والمُكلفة. فمواجهة السلطة وسريالية واقعنا في لبنان تتطلّب جهداً إضافياً في توليد خطاب سياسي لا يعتمد على الشعارات والشارع وحسب، بل على استراتيجيات تتقاطع من دون أن تلغي مساحة الآخر، ومن دون أن تفترض تمثيل أحد، بل ترتكز على التضامن بين مختلف الفئات والقطاعات.
.
Publisher:
Section:
Category: