فكر الثورة الواضح والفكر القديم المراوغ

القاهرة

*يتميز الفكر الثورى بالوضوح، الكرامة، الحرية، العدالة. كلمات بسيطة واضحة لا تحتاج إلى الفلاسفة الكبار الذين حصلوا على  لقب  “كاتب كبير” أو   “مفكر   كبير”  منذ العهود  السابقة ،  ومساحة  دائمة “ملكية خاصة” فى الجريدة الحكومية أو  القومية الكبيرة ، تم توزيعها   عليهم   وأبنائهم وبناتهم،  مع   أراضي   الدولة   واللجان  والإقطاعيات، فى المجلس الأعلى للثقافة والاعلام  والساحل الشمالي والقطامية والقاهرة الجديدة، كثير من هذه الأقلام الضخمة المتضخمة فى الصحف الكبرى, التى بريت سنونها  من طول تبرير وتجميل الفساد للحكام السابقين ووزرائهم  وشركائهم، وتصوير عقل الواحد منهم المتواضع بأنه عبقرى زمانه وصاحب نظرية فلسفية وفريد من نوعه غير مسبوق. كم جرت على ألسنتهم هذه العبارات التي فجرت الثورة والشرايين فى مخ الشعب “اجتماعنا مع   الرئيس مبارك كان فريداً من نوعه غير مسبوق”. بالذات كلمة “غير مسبوق” لم يجف مدادها حتى اليوم، هؤلاء الكبار الذين تطل علينا صورهم القديمة بعد عمليات شد الجلد وصبغة الشعر، ما زالوا يكتبون كل يوم وكل أسبوع. تتلون كتاباتهم حسب من يصعد الى السلطة، كالوا المديح لشباب الثورة كما كالوا المديح لمبارك وزوجته وابنه، يمكن أن يفسدوا الشباب الجديد من نزيف كلماتهم الزائفة بالمديح، كما أفسدوا   الحكام السابقين وكما سوف يفسدون الحكام اللاّحقين، طالما هم يكتبون ويراوغون ويتفننون في النفاق وبلبلة العقول الشابة الجديدة.

اليوم قرأت لهم كلمات مراوغة تخلط الأشياء حتى تختفى الحقيقة البسيطة الواضحة التى تقول إنّ الدستور والقانون العادل ضروري تطبيقهما على الجميع، سواء أكان حاكماً أو من الشعب، بل الحاكم  بصفته المسؤول  الأول يجب ألاّ يفلت من المحاكمة العادلة ويعاقب إن ثبت جرمه سواء أقتل المتظاهرين أو نهب الأموال أو تستر على الفساد أو كل ذلك. وقد أصبح مبارك مطلوباً للمحاكمة، لكن المحاكمة تتأجل وتتأجل لأسباب صحية أو سياسية أو غيرها. هناك بالطبع ضغوطات من الخارج والداخل تريد إعفاء مبارك من المحاكمة تحت تبريرات مختلفة يروجها كبار الكتاب الذين ما زالوا يراوغون لإجهاض الثورة وإفراغها من معناها، لتصبح مجرد أغنية تذاع كل عام فى 25 يناير، كما تذاع أغنية “يا حبيبتى يا  أمي” فى عيد الأم الهزلى أو  أغنية “يا حبيبتى يا مصر” فى مواكب النفاق الوطنى التى يغنيها أصحاب البلايين فى المهرجانات الثقافية والإعلامية، أو معاش شهيد لا يزيد عن وجبة طعام فاخرة على الساحل الشمالي أو الجنوبي.

اليوم قرأت الأعمدة اليومية للكبار وبعض مقالاتهم، كلها متشابهة تدور حول الفكرة الخفية ذاتها، كأنما يتفقون عليها في الليل أو تصل إليهم من جهة عليا في رسائل بشفرة سرية، محاولة إعفاء مبارك وأسرته من المحاكمة تحت أي تبرير. “يا شباب الثورة النقي، أنتم نبلاء ترتفعون عن مشاعر الانتقام والتشفي، ترتفعون فوق العقاب، العفو عند المقدرة يا  شباب الثورة العظيمة الطاهرة الزكية، ليست مثل الثورة الفرنسية التي أعدمت لويس السادس عشر وأسرته. ثورتكم بيضاء ليس فيها دم”. تسيل دموعهم الغزيرة مع الحبر السائل من أقلامهم الكبيرة، لم يبكوا على الآلاف الذين قُتلتوا وجُرحوا في الشوارع وميدان التحرير بالرصاص الحي وسيوف راكبي الأحصنة والجمال، لم يبكوا على الشباب الغض الذين فقدوا عيونهم بقنابل القناصين المطاطية، لم يبكوا على شعب مصر الذي عانى الفقر والبطالة والهوان فى السجون والمعتقلات إن فتح أحدهم فمه بكلمة حق، إن كتب أحدهم كلمة صدق. لم يبكوا على كاتبة شاعرة شابة دفنت بالحياة لأنها لم تمشِ في مواكب النفاق. لم يذرفعوا الدموع إلاّ على حكام أراقوا الدماء والأموال وحموا الفاسدين من المحاكمات، اليوم يحاولون بأقلامهم حماية الحكام الساقطين من محاكمات الشعب، باسم الله. الله وحده هو صاحب العقاب أو الثواب، أخرجوا الأسلاف واللحى الطويلة من القبور ليقولوا الله هو الواحد القهار القادر على كل شىء. آمنوا بالله يا شباب الثورة ولا تسمعوا كلام الكفار الحاقدين من ذوي القلوب السوداء الذين يطالبون بالقصاص، أصبحوا ينافسون السلفية  والصوفية والجهادية فى ترداد كلمة الله، فى الاختباء وراء “الله” المسامح الكريم، لإلغاء أو تأجيل محاكمة مبارك الى أجل غير مسمى.

وما فائدة القانون أيها السادة الكبار، وكيف تكون هناك عدالة من دون محاكمة؟ لماذا تخافون من المحاكمة اذا كنتم أبرياء واذا كان متهمكم بريئاً؟ لماذا لا تحاكمون الكبار وترجون لهم الرحمة والصفح؟ لماذا لا تحاكمون إلاّ الصغار على غرار محكمة العدل الدولية التى تركت جورج بوش حراً بريئاً وعاقبت الآخرين الضعفاء من حكام أفريقيا السوداء؟

مبارك كان هو الجهة العليا التى تعطي الأوامر والتوجيهات للوزراء وكبار الكتاب والكاتبات. يوزع عليهم الجوائز والمناصب ، لم يكن أحدهم يفتح   فمه الا ويلهج بالثناء والولاء والتوجيهات من السيد الرئيس. لا يجتمع الرئيس بهم إلاّ ويخرجون من الاجتماع يرددون فى كورال واحد “اجتماع فريد من نوعه غير مسبوق”. أي والله غير مسبوق.

كتب بعضهم يقول، “كل الناس يخطئون يا شباب، أنتم في ربيع العمر أنقياء رومنسيون، لم تعرفوا الحياة، ليست لديكم تجارب، لكن نحن الكبار عركنا الحياة، كلنا عايشنا النظام السابق، كلنا تكيّفنا مع النظام وعشنا معه، نحن الكتاب الكبار، لم يكسر أكبرنا الكاتب الكبير الخطوط الحمراء، فقط فى اجتماعاتنا الخاصة بعيداً عن عيون الأمن وآذانه، قد يلمح أحدنا بغمزة عين، أو تورية، كانت لنا حدود لا نتخطاها وإلاّ السجن أو تجويع أولادنا أو تلفيق التهم لنا أو النفي خارج أو داخل البلاد. يا شباب، لا  بد أن تتعالوا على أنفسكم وتنبذوا الانتقام من مبارك. الضرب فى الميت حرام يا جدعان.  يجب ألا تفقدوا روح الثورة السامية، يكفي استرجاع المال المنهوب عن طريق القضاء، ونحمى مبارك وأسرته من بهدلة المحاكمة،  ويخرج من مصر آمناً كريماً من دون انتقام منه”.

هذه هي النغمة الجديدة التي يعزفها كبار النخبة المصرية اليوم من 18 أبريل 2011. الأعمدة الفكرية للحكام السابقين المتربعين حتى اليوم على عروش الثقافة والإعلام والكتابة والفنون، تكاد تشتم منهم أن المحاكمة لن تحدث،  وإن حدثت فستكون شكلية فقط تنتهى بالبراءة والسفر، بأمان خارج البلاد. أرجو أن أكون خاطئة حماية لمصر من ثورة أخرى حارقة.

 

 

*ننشر المقال بموافقة من الدكتورة نوال السعدواي والذي يمكن قراءته أيضا على صفحة الاتحاد النسائي المصرى-تحت التأسيس على الفايسبوك.كما سنوفر الترجمة الإنكليزية للمقال غداً.

http://tinyurl.com/444q48x

  

Publisher: 

Sawt al' Niswa

Section: 

Category: 

Tags: 

Featured: 

Popular post

Our portfolio

We wouldn't have done this without you, Thank you Bassem Chit - May you rest in power.

Copy Left

Contact us

Contact Sawt al' Niswa via:

You can also find us on: