تخيُل بيروت أخرى: احتللن الأرض والسماء والعيون

ثمانية عشر أشهر مرّت ونحن ننام في العراء. أصبحنا نعدّ ثلاثمئة خيمة في وسط بيروت فقط، والمئات الأخريات تتوزّع بين أحياء بيروت الكبرى والضواحي والآلاف منها بين القرى والمدن في الشمال والجنوب والبقاع والشوف والمتن بما فيها المخيّمات الفلسطينية.

تنتقل الخيم من مكان إلى آخر: حالما تستلم اللجان الشعبية السلطة في منطقة ما، تفكّ الخيم وتنتقل لدعم مطالب المناطق المحتاجة.

المنظر مختلف بحسب كلّ منطقة. الكل يطالب بإزالة النظام الحالي، بنظام جديد يكون الحكم فيه للشعب ويتمّ فيه التصويت على كل القرارات. يطالبون بنظام اجتماعي مختلف يدعم حقوق الأقليّات، نظام لا دين فيه، يعمل من أجل انهيار العائلة وتفكيك النظام البطريركي، نظام تكون فيه العاملات والعمّال متشاركين في إدارة وملكية أدوات الإنتاج، نظام يسعى إلى إثبات أنّ هنالك بديلاً عن سياسات التفقير والتوحّش الرأسمالي.

ولكن الاختلاف يكمن في كيفية الاحتلال ومعانيه ومركزه. ففي وسط المدينة، المحتلّ أصلاً من شركة خاصة أكلت تاريخه ومنعت الفقراء من دخوله، نصبت الخيم مكان قبر رفيق الحريري مدمّر وسط بيروت وأزيل الجامع بجانبه كما أزيلت شركة فيرجين من داخل مبنى الأوبرا القديم. وقد طردت الشركات من المباني التي فتحت لبنات وأبناء مخيّمات مار إلياس وصبرا وشاتيلا وبرج البراجنة ليستعملوها. وحوّل الأهالي المساجد والكنائس إلى مساحات عامة متعدّدة الاستعمال، فهنا مدرسة وهنا عيادات مجانية وهناك مركز حضانة أو مرسم لفنّاني الحيّ.

ولا تبدو الأمور مختلفة في القرى والمناطق الأخرى. فقد احتلّ أهالي العديد من قرى الجنوب “فيلل” أغنياء أفريقيا بحيث نجد في عين بعال مثلاً، الطابق الأرضي من فيلّا وقد حوّلها راعٍ إلى مزرعة صغيرة يقي فيها عنزاته برد كانون.

غريبة هي هذه الثورة. ثورتنا، لم نقرأ عنها، لم نسمع امرأة عجوز تحكيها بصوت خافت، لم تعد بعيدة غريبة يوطوبية. خلقناها وكتبناها. كسرنا قبلها ومن خلالها خطوطنا الحمراء ورمينا أنفسنا هكذا، عاريات بصدور مفتوحة على كل ما قد يضربها، وكسرنا حواجز الخوف. فماذا لدينا لنخسره؟

لقد خلقت هذه الثورة فينا أكثر بكثير ممّا كان موجوداً فينا كبشر. كنّا نعيش تحت نظام يقول لنا إنّ أفضل ما ستحصلين عليه في هذه الحياة، “إن” تبعت نصائحنا وتجنّبت ممنوعاتنا وقبلت مقاييسنا للخير والشر ومشيت بجانب الحائط، هو أن تحصلي على شهادة وتتزوّجي وتنجبي أولاداً وتصبحين منتجة اقتصادياً. “لماذا؟ مَن قال إنّ هذا ما أريده؟ لم لا أستطيع أن أبتغي شيئاً آخر؟ ما قيمة هذه الأشياء؟” ششش! لا تسألي! الكل يفعل هذا، ممنوع السؤال.

كان العالم مكعّباً مغلقاً لا خروج منه ولا نظر إلى خارجه ولا تفكير بأنّ هنالك “خارجاً“. ونحن كسرنا المكعّب.دقيّنا كتب تاريخهم العفن في زواياه، مزّقنا بأظافرنا حيطانه السميكة، حرقنا أموالهم لتقي العالم برد الخارج فنحن لم نعرف يوماً معنى نسمة باردة من خارج سجن النظام. وهنا، لم يكن الأمر كما قالوا لنا. لم يكن مخيفاً أو مؤلماً ولم نحسّ بالضياع ولم نخف ولم ننتهِ.. لم تكن النهاية هنا بل كانت البداية.

كمن كان..لا لا لقد كنّا حقّاً نعيش في مكتب، في غرف صغيرة سيئة الإضاءة، وماكينة التبريد تعمل من دون توقّف بأزيز متقطّع وهواء اصطناعي وعملنا متكرّر لا خلق فيه ولا تغيير….وخرجنا إلى النور يوماً، لفحتنا شمس ضاحكة ووقعت ربطة الشعر فطار شعرنا في الهواء ونظرنا إلى الأرض فخلعنا الحذاء السميك ووقفنا نتأمل أرجلنا تغرق في الرمل وموج البحر يمازحها..هذه هي الثورة.

لقد فعل فينا هذا النظام فعله لزمن طويل. وكان إذ همّش وعذّب وجوّع واضطهد، كان أفظع ما فعله هو قتل فكرة الثورة فينا. كان الناس العاديون، كان بائع الذرة المسلوقة وعاملة التنظيف في المنزل وربّة المنزل معها، كانوا يرون أنّ الموجود هو الممكن. وكان المضطهد يتعلّم كيف يضطهد شخصاً أضعف منه. وكان المظلوم يسكت عن ظلمه لأنّ النظام لن يسقط بصرخة شخص واحد. كنّا نخاف من بدلة العسكر وكان وقع صراخهم علينا كالقضبان، تسجن وراءها كلماتنا.

لكن الظاهر هو أنه لم يستطع قتل الثورة. ربّما هي تراكمات في وعينا، أو قابلية بيولوجية لدينا لتحمّل البؤس والظلم تجعلنا في اللحظة الحاسمة كقنبلة موقوتة... لا أدري ما الذي فجّر فينا هذه الثورة، ولا أدري ما الذي جعلنا نرى بوضوح أين نحن وماذا نريد من هذه الحياة وكيف نحصل عليه. وببطء، كما في الأفلام، يضيء نور وجوهنا السمراء التعبة ونمضي بمعرفة العالم والواثق، نمضي إلى أرضنا نسترجعها، إلى الهواء نسترجعه، إلى أطفالنا، إلى ضحكاتنا وإلى ذكرياتنا.

لم تكن الأرض لنا قبل الثورة، لم تكن حتى راحات أيدينا لنا أو أنفاسنا أو عيوننا.

لم تكن الأرض أرضاً قبل الثورة ولم نكن بشراً

Publisher: 

Sawt al' Niswa

Section: 

Featured: 

Popular post

Our portfolio

We wouldn't have done this without you, Thank you Bassem Chit - May you rest in power.

Copy Left

Contact us

Contact Sawt al' Niswa via:

You can also find us on: