أريد أن أصدّق أنكِ مثلي

للحبّ هنا طعمٌ آخر- مايا العمّار

لا داعي لأن تقلقي. فقد آن الأوان لتدركي أنّ العالم لا يأبه لشيء، لا للأنفاس التي تعدّينها ببطء ولا للأفكار التي تهري أنفاسكِ. أريد أن أصدّق أنكِ مثلي، مكثتِ حزينةً لأعوام طويلة تتآكلكِ خلالها وحدةٌ كنتِ في الحقيقة تتمسّكين بها. فغيابها أصعب من أيّ غياب، وحضورها يبعث على حياة من نوع آخر. حياة تنبع من الداخل، هذا الداخل المرعب الذي تلهثين وراء مشقّات يوميّاتكِ وترهاتها هرباً من زيارته. فالقرع على بابه أصعب على يدِكِ من إلقائها التحيّة على من رأى أنكِ رأيتِه في الشارع وادّعيتِ عكس ذلك، لأنكِ ببساطة تكرهينه. وربّما تكرهين هذا الداخل أكثر، لأنّنا على الأرجح نكره أكثر ما نخشى أكثر.
مرّت الأيّام وأنتِ تتصارعين مع الوحدة والداخل، والخارج بينهما. ومن ضمن الخارج، هذا الآتي إليكِ طالباً زيارة الداخل، قارعاً الباب الذي لم تجرؤ يدكِ على لمسه بعد.
مرّت الأيّام، وهذا الآتي صار وفداً، والوفد حشوداً، والحشود زحمة. قد يكون الوفد صغيراً، والزحمة وهماً. لكن أريد أن أصدّق أنكِ مثلي، تؤمنين بأنّ الوهم حقيقة وبأنّ الاختناق من طقوس الإيمان
توهّمتُ لفترة طويلة أنني أحبّ كسائر البشر. والدليل بالنسبة إليّ كان الوفود التي زارتني مبديةً اهتمامها بعبور الباب السرّي. هذا الباب الذي شققته أمام بعضها، متيحةً لنفسي أن أسترق النظر أنا أيضاً إلى محتويات هذا الداخل، وأراقب تفاعلها مع مكوّنات داخل الزائر. لكن سرعان ما كنتُ أسدّ الباب وأشدّ المقبض تلو الآخر، مدركةً في حالات غير قليلة أنّ في المقلب الثاني من كان يترقّب ذلك، ترقّباً يلامس حدّ المطالبة غير المُعلَنة... هذا إن لم يكن قد حزم أمتعة آماله المتكسّرة ومضى.
دعينا هنا لا نغوص في متاهة العلاقات والأسباب غير العبثيّة لاختيار الأشخاص بعضهم لبعض وإن لمدّة وجيزة. عوضاً عن ذلك، اسمحي لي أن ألخّص في جردة سريعة، لا تعكس بالضرورة توثيقاً دقيقاً، بعض أحداث "حُبيّة" رصدتُها مع رجال بلادي.

"للحبّ" هنا طعمٌ آخر. طعمٌ مُتعب لإنسانة تعلن انتماءها للنسوية، كما هي، أو كما تحبّها، أو كما تفهمها.  فإمّا أن يمسي هذا الانتماء بُعبُعاً، أو في أحسن الأحوال، إنذاراً للشاب بقرب الحائط الذي سيصطدم به رأسه، أو أن يتحوّل نكتةً سمجةً لكثرة تردادها، على شاكلة: "يي علينا، بلا نسويتِك هلّق، مشّيني حياتي...". هنا يجدر بكِ أن تبتسمي كي لا يتّهمكِ الأخ بحمل السلّم بالعرض أو بإفساد اللحظات السعيدة! وينطبق الأمر على المرّة الألف التي يردّد فيها عباراتٍ كهذه دون أن يكلّ، صاحب حسّ الفكاهة المرهَف. ولديكِ نكتة "ليش بسترجي إغلط معك؟ هاهاها". هنا أيضاً يجدر بكِ أن تفرحي لأنه قد يرتكب الغلط مع غيركِ، لكن معكِ أنتِ، حاشا. وابتسمي إذا أمكن، خاصّة إذا كنتِ فعلاً منجذبة إلى الشاب وتريدين إعطاء القصّة فرصة، بناءً على تعليمات مفادها أن تعطي الأمور وقتها، وأن ترخي أعصابكِ في هذا العالم الجميل، وأن لا تتسرّعي في الحكم. فمن أنتِ أصلاً لتحكمي على الآخرين؟ لربّما يجهلون ما تتحدّثين عنه، أو أنهم لم يتعرّضوا لطينتِك من قبل و.. و.. وغيرها من التبريرات التي تغدقينها على نفسكِ المرهَقة لتتمكّن من الاستمرار.
حال هؤلاء تماماً كحال فرق البحث عن حقوق الرجل الذين بالكاد يسمعون أنكِ ملتزمة بالدفاع عن حقوق المرأة حتّى يرمونكِ بتصريح نوويّ بصيغة تجاهل العارف على شاكلة "بهالإيام بدنا حقوق الرجّال، وين حقوق الرجّال؟ النسوان ما خلّولنا شي". ربّما يعتقدون أنهم أوّل من يطلق هذا النوع من النكات أمامكِ، فيما أنتِ تسمعينها في كلّ مرّة تتفوّهين بكلمتَي "حقوق" و"امرأة". ظلّوا يطلقونها حتّى صيّروكِ مصنعاً لأحدث التكتيكات في التعاطي مع تلك التساؤلات والنكات. بالكاد تتحدّثين عن حقوق المرأة، حتّى تضربهم فوبيا الزوال. غريبٌ أمرهم.
في كلّ الحالات، أنتِ عالقة. عالقة بين خيارات محدودة غالباً ما تلزمكِ باحتواء الموقف. فهل تشعرين بقليل من الهزيمة أو الخيبة لأنكِ ساومتِ على مبادىء أضحت بديهيّة بالنسبة إليكِ، وإن جهلها أو استخفّ بها الطرف الآخر؟ أم تهنّئين نفسكِ على صبرها ونجاحها في الإقناع أحياناً، والاستيعاب عموماً؟ الاستيعاب. الاتّساع. الاحتواء. يبدو أننا عدنا إلى الإناء. والمشكلة أنّ الإناء سيفيض لا محال. وقد يفيض في وجه من لا ذنب له ليحاصره بأحاسيس غير لطيفة كفقدان الشهيّة. شعور لم يكن بالضرورة يستأهله، لا هو ولا أنتِ.  
لسنا نتحدّث هنا عن تصرّفات ذكورية وسلطوية من تلك التي ترذلينها بوضوح قبل أن تديري ظهركِ، أو تعبّري عن اشمئزازكِ، بل عن تلك التصرّفات الصغيرة (الكبيرة) التي تطالعكِ أينما تطلّعتِ، وأنتِ شبه مكرهة على التعامل معها واحتواء الموقف لأنكِ على يقين بأنّ احتواءك له (الموقف ومسبِّبه ضمناًأسهل من احتوائه لغضبكِ، خصوصاً عندما يعجز عن فهمه، أو يوحي لكِ بعدم فهم هذه الحماسة "الفائضة"، على حدّ تعبيره. وقد يوحي لكِ بذلك بوداعة حمل صغير، أو فضول طفل جائع إلى المعرفة، أو ثقافة مُتنوِّر (على الأرجح يساري) تخطّاكِ بأشواط! وهنا أيضاً أنتِ عالقة. إنّما هذه المرّة بين حمل وطفل ومتنوِّر.

ثمّ نعلق في نوع آخر من "الحبّ".
ذاك الذي ينتمي إلى الصنف الجميل، والحسّاس. جماليّة، وحساسيّة، ومعهما عفويّة طليقة لا تخلو من براكين تسيّل بين الفينة والأخرى ملحاً رطباً على جلده. بيد أنّ الكثير من هذه العفويّة يتلاشى لحظة التلاقي التي تشاركين في تحديد ظروفها. فإن أبديتِ رأياً غير مرحَّب به، خسرتِ، ولو أوهمكِ أنّه كان مرحِّباً ومتفهّماً. فهو طبعاً يحبّ المبادِرات، والفاعلات، والقويّات. لكنّه يحبهنّ من بعيد. وكم أودّ أن أصدّق أنكِ مثلي، لا تعنيكِ معارك إثبات الذات، والقوّة بالنسبة إليكِ مفهوم شائك، حتّى أنكِ تشعرين في أوقات أنكِ جبُلتِ من سحابةٍ هشّة، تحضنينها وتحضنكِ أثناء النوم.
لحظةَ اقتربت القوّة من صديقنا، تلاشى. وحين قوبل ضعفه بعزيمة لطيفة واحتواء للموقف، استسلم، لا للعزيمة والاحتواء، إنّما للرحيل، سيّد كلّ النهايات. رحل ولم يقل إنه سيعود. كيف له أن يخبركِ بأنّه عائد إن لم يطلعكِ أصلاً بأنّه ذاهب، أنتِ التي شاركتِه في تحديد ظروف التلاقي؟
كان من الأفضل أن تجاريه في استغلاله المطلق لمفهوم التحرّر الأنثوي الذي يؤيّده حين يتناسب مع أهوائه، ويرذله حين يهدّد نرجسيّته الخبيثة. كان يجدر أن تصمتي لكي لا تهدّدي اضطرابه الذكوري الذي لم يمحُه ادّعاؤه تجاوز الذكورية. كان يجب أن تدّعي الفرح حين كان يلامس بشرتكِ من دون أن تشعري بشيء من الدفء الذي وعدكِ به ملحه الرطب. فصدمتكِ الصريحة من جرّاء أدائه العاطفي المخيِّب ثقيلة على رجولته. كان من الأجدى أن تحتوي الموقف بعبارة مثل "ماشي حبيبي، كلّه تمام". وأن تذبّلي عينيك إذا أمكن، متحسّرةً على الأيّام التي قضيتِها قبل أن تعرفي إِشراقة وجهه. ببساطة، كان يجدر بكِ أن تتصرّفي على أساس أنّكِ في الكون وأنّه هو محوره والإيقاع الذي يحرّكه.

ثمّ يظهر الإيقاع الذي يحّرك المياه الراكدة في الإناء. كلّكِ رجاء أن لا يطلب منكِ احتواءه بصفته الرسمية كالأستاذ "محور شمس الكونوأنتِ بصفتكِ الرسمية كالأستاذة إناء. البشرى السارّة أنه لم يكن كذلك. كان رقيقاً، وخجولاً، وثرثاراً في الوقت نفسه. صحيح أنّ في حياته قطعاً سميكة من التعقيدات، لكن يكفي أنّه يصغي ويتفاعل مع تعابيركِ كما لو أنّه عاشركِ لأعوام. وأنتِ كذلك، تنظرين بعطش متواصل إلى كلماته وحركاته وهي في طريقها إلى حواسِّك.
ترغبين باستمرار في القفز بين ذراعيه وتقبيله... غير أنّه، على الأرجح، يرحل قريباً لأنّ مهمّته على وشك أن تنتهي. فقد حرّك المياه الراكدة، وقرع على بابك السرّي، وأنتِ شققتِه له بسرور لتلقي معه نظرةً جديدة إلى الداخل. إلا أنّ ما رأيتِ في داخلكِ بعد التحوّلات التي شهدها في الآونة الأخيرة لم يتفاعل كما رجوتِ مع ما أظهره لكِ من داخله المنكسر. الركام والحطام لا يصلحان لبناءٍ صلب، ومصيرهما في أقسى حدّ تحفة فنيّة في أحد معارض الحداثة. كلاكما عرفتما ذلك وتوادعتما بإشارات ضوئية قبل سدّ الأبواب رسمياً، من دون عناء الشرح والمضغ.
كان من مصلحتكِ ألا تتسرّعي في شقّ الباب شبراً إضافياً. ففي هذا الشبر، اكتشفتِ أنكِ غاضبة من كلّ الصيغ، وكان هو، في ذلك النهار تحديداً، عاجزاً عن الاحتواء.
لكن لا داعي لأن تقلقي... أريد أن أصدّق أني مثلكِ، نعم أنتِ، يا خلايا لن تنام من كثرة العشق.

Publisher: 

Sawt al' Niswa

Section: 

Category: 

Featured: 

Popular post

Our portfolio

We wouldn't have done this without you, Thank you Bassem Chit - May you rest in power.

Copy Left

Contact us

Contact Sawt al' Niswa via:

You can also find us on: