نسوان الحي -- قصة قصيرة

ديمة قائدبيه

في بداية انخراطي في السياسة النسوية في بيروت، لم تكن تخلو بعض اجتماعاتنا من السخرية  من "ستات البيوت" وكنا نظن بأننا أفضل منهن وأكثر تأثيراً في مجتمعاتنا. لكن مع تعمق فكرنا وضيق أفقنا النسوية-- اذ كنا دائماُ نبحث عن الشرائح الغائبة عن تجمعاتنا، أصبحنا نرى خطأنا في صرف نظرنا عن بعض النساء. وأصبحت أتنكر شخصياً من هذه الآراء التي حملتها لسنوات، وإن كان من خلال تهجمي على النسويات الأصغر مني سناً اللواتي يقلن اليوم ما كنت أقوله في الأمس.

وها أنا أعود الى نسوان الحي في ضيعتي، لأنني متى بدأت أراقب "ستات البيوت" وآخذ معرفتهن وملاحظاتهن بجدية، صرت أرى كيف أن الحي وتحالفاته يقوم على أساس الطبقة الاجتماعية والاقتصادية والتي أجدها بأهمية العامل الانساني وتلاقي الشخصيات أو تنافرها. ونستطيع أن نفهم كل هذه التحالفات من خلال علاقات أربع نساء في الحي، أذكرهن بالتسلسل العمري: أم أكرم، وداد، أسمى وسلوى.

الست أم أكرم، وقد احتفلت بعيدها الثمانين العام الماضي من خلال عشاء ما كانت تريده، في مطعم فاخر وهي لا تحب المطاعم. لكن اولادها أصروا على هذا الإحتفال التكريمي. وكإنتقام غير مقصود، فقد أخجلت أولادها والحاضرين وأضحكتهم حين قالت على مسمع من الجميع "لَشو؟ كان فينا ناكل بالبيت. لَشو كب المصاري هيك؟" وعلى الرغم من خوفها على "كب المصاري" وتردادها الدائم لمَثَل "خَبي قرشك الأبيض ليومك الأسود"، فقد هنأت أم أكرم مادياً في السنوات الأخيرة بعد أن كبر أولادها ونجحوا في أعمالهم، في لبنان وفي الخليج. أولادها الذين في لبنان يعيشون بالقرب منها ويصرفون بسخاء عليها وعلى بيتها. تتكلم عنهم كثيراً، كم هم ناجحين وكم يشكر بهم الناس أينما ذهبت. منذ سنتين أتت ابنتها (وهي صاحبة صيدلية) بأمرأة أثيوبية في العشرين من العمر لتعيش مع أمها وتهتم بوالديها وببيتهما. تشتكي أم أكرم من تالا أياماً (لأسباب تافهة او ملفَقة: لا تسمع مني، عم تحضر تلفزيون، عاملة حالها مريضة الخ) وتشكرها أياماً أخرى لأنها "صارت ست بيت".

 تتناقل أم أكرم أخبار الناس بكل تفاصيلها، فهي اجتماعية، تزور الناس ويزورونها دائماً. كما تستذكر بقصص طريفة الأقارب وسكان الحي القدماء الذين ماتوا أو هاجروا. ففي قصصها يعيش أجدادنا معنا بكل مزاياهم الحسنة والسيئة وبكل أطوارهم. وأم أكرم هي خبيرة المداواة بالأعشاب وكيفية تحضير المربى ومونة الشتاء. وكثيراً ما تزور ستات البيوت اليافعات والمسنات خصيصاً لتقديم خبراتها.

أما وداد فهي قارئة فنجان بارعة، وفي أحلامها يأتي إليها شخصيات من ماضيها ومستقبلها تثق بما يحملون إليها من رسائل ودلالات في حياتها. ترَمَلت منذ عشر سنوات، وتعيش مع ابنتها بعد أن تزوج ابنها البكر. تحمل في قلبها هَم عدم زواج الابنة مع تزاوجها عامها الثلاثين. كما لدى وداد عادة بأنها تقول ثمن كل شيء تبتاعه، كسعر الخضرة في السوق والدواء وكل ما تشتري أو يأتيها به أولادها. فكلما أخبرتنا عمَا فعلت في ذلك اليوم أصبحنا ننتظر أن تقول لنا سعر كل شيء. وربما أنا لا أنصفها هنا، فهي امرأة من قاع الطبقى الوسطى، ولا بد أنها تحسب حساب لكل ليرة تنفقها. وتزور الست وداد فقيرات الضيعة والضيع المجاورة وتساعدهن في أوقاتهن الصعبة.

بعض ستات الحي الأغنياء لا يزرن وداد في بيتها كثيراً بسبب تواضعه وبسبب فقرها المتوارث. وإن زاروها فلا يتضيفون مما تقدمه. أما أسمى فتزورها دائماً، وهي أيضاً تعيش حياة متواضعة. لكن أسمى عاشت في بحبوحة في أول فترة زواجها وفي بيت أهلها قبل ذلك، وتذكر تلك الأيام دوماً. لكنها لا تخجل من فقرها الحالي بل أراها قنوعة وقلبها طيب. ومع ذلك، تنزعج من نسوان الحي اللواتي يقللن زياراتهن الى بيتها: ألا يعرفون من هي وكيف كانت حياتها من قبل؟ وأثاث بيتها يشهد على حياتها السابقة، مع أن بعضه قد أصبح قديماً.

تحب أسمى السياسة ومشاهدة نشرات الأخبار على كافة المحطات في المساء، وأخبار الصحف في الصباح. كما تتابع البرامج التلفزيونية الحوارية الاجتماعية في النهار أثناء عملها. فهي قلَما تخرج من البيت إلا في الأعراس والأعزية، وتدور حياتها حول بيتها وزوجها وأولادها. غير مقتنعة دائماً في صداقة وداد رغم أنهما تشربان القهوة أو الشاي معاً كل يوم تقريباً، لكنها تبحث عن صداقات جديدة تتلائم مع طبعها الهادىء وحبها للأحاديث الأكثر عمقاً. أما أم أكرم، فتزورهما بانتظام فترات وتغيب عنهما فترات أخرى.

أما سلوى، فهي تعيش في البيت الأكبر في الحي. وما يزعج أسمى في تصرفات سلوى أنها كانت من عائلة متواضعة وقد عرفت الغنى المادي فقط بعد زواجها. كما قالت أسمى مرة: "الكل بيعرف كيف كانت عايشة، هلَق عاملة حالها غرايس دو موناكو." فأسمى كانت صديقة لأخت سلوى الكبرى في شبابهما، ووالدتهما كانتا صديقات أيضاً. وأنا أعتقد أن سلوى طموحة وذكية ولا تتكل فقط على زوجها، وإلا لما أخذت دروس في الكومبيوتر في بيروت بعد أن كبر أولادها، ولفترة كانت تزورها معلمة بيانو أيضاً.

صارت سلوى تقضي معظم وقتها في زيارة سيدات المجتمع، فلم نعد نراها في الحي كثيراً، لكنها تزور أم أكرم بشكل شبه متواصل. وتقيم سلوى دعوة أو دعوتين كبيرتين في السنة، تصبح محور حديثها لأسابيع قبل الحدث وبعده. وربما الدعوة الأهم تكون في الصيف حين يعود الكثير من المغتربين. والصداقة مع المهاجرين العائدين لفترة قصيرة من الولايات المتحدة وكندا تصبح تحالفاً تكتيكياً لتعزيز المواقع الإجتماعية القائمة.

ومكانة سلوى وانشغالها في الاجتماعيات تحتمان عليها أن تستعين بعاملات اجنبيات، وآخرهن كانت داويت، وهي من أثيوبيا. ولحسن حظ داويت وتالا أن الاثنتان من البلد ذاته وتستطيعان أن تمضيان بعض الوقت لتتكلمان معاً، وإلا فأيام (أو ساعات) راحتهما قليلة ودائرة معارفهما صغيرة جداً. وداويت التي عملت في بيروت قبل أن تأتي الى الضيعة أم لفتاة صغيرة تشتاق اليها ولا تستطيع أن تتكلم معها ومع سائر عائلتها إلا مرة كل أسبوعين. وتنتظر داويت اليوم الذي تغادر هذه الضيعة البائسة وتتحرر من متطلبات سلوى التي لا تتوقف

 

واجتمعت الستات الأربعة في بيت أم أكرم في يوم من الأيام، وهي ربما من المرات القليلة التي أراهن مع بعض رغم تلاصق بيوتهن. اجتمعت النساء الأربعة وكان السبب الرئيسي أن أم أكرم مرضت لأسبوعين وقد بدأت بالتعافي، فهن لا تخالفن واجبات المجاورة في مساندة بعضهن في هذه الحالات. اجتمعن وبالطبع كان الحدث الأهم قراءة فنجان القهوة، التي أعدتها وقدمتها لنا تالا مع الكثير من تعليقات وإرشادات أم أكرم لها. وفي قراءة الفناجين طمَأنت وداد الجميع بأن أيامهن القادمة بيضاء رغم وجود غيوم عابرة في حياتهن (وقد أشارت الى هذه الغيوم والإنفراجات بأصبعها لنراهم في الفناجين). وأنا كنت في هذا الاجتماع مع أمي، وكنت الثانية في تسلسل قراءة الفنجان بعد أم أكرم، لأنها الأكبر ثم أتى دوري لأنني العزباء الوحيدة كما قالت وداد (وبالطبع في مثل هذه الجلسات الصبر ضروري على التمنيات لي بالزواج و"نفرح منك" وما الى ذلك. وقد خاب ظن الحاضرات حين لم ترَ قارئة الفنجان أي رجل في مستقبلي القريب بل رأت اجتماعاتي مع صديقاتيثم صار دور أسمى فأمي ثم سلوى.

وكان الحديث في هذه الجلسةبينما كانت تالا تقدم لنا صنفاً آخر من الحلوى-- عن امرأة في ضيعتنا تعامل قريبتها المسنة معاملة قاسية وانتقاد لشخصيتها المزعومة التي تفضِل المال على علاقات القرابة. وفجأة دارت أسمى نحوي وقالت: "انتي بتشتغلي في مجال حقوق المرأة، وهاي الحقوق مش بس بالقانون" وصرَحَت أن المشكلة ليست فقط بين الرجال والنساء، وكيف تتعالى النساء على بعضهن.

وكان هذا الخطاب القصير الذي انفجر عشوائياً "لطشة" بلا شك على بعض الحاضرات. لكن الحديث بعد ذلك أخذ منحى كاره للنساء قليلاً، اذ عاتبت الحاضرات النساء وتصرفات بعضهن. ولم أجد المساحة لأشرح لهن النظرية النسوية القائلة بأن البطريركية والنظام الأبوي القائم هو ما يقلب النساء ضد بعضهن على أساس الطبقة والعرق للتقرب من مواقع السلطة التي يستحوذ عليها الرجال. وكنت أريد أن أشير أيضاً الى العاملات الأجنبيات في منازل بعضهن وكيف تعاملهن.

لكنني  سكت. وما هي إلا دقائق حتى شكرنا الست أم أكرم وتمنينا لها الصحة ودعونا بعضنا لزيارة قريبة ("طُلو صوبنا") ثم افترقنا.

                                                                                                                                                             

 

  

Section: 

Featured: 

Popular post

Our portfolio

We wouldn't have done this without you, Thank you Bassem Chit - May you rest in power.

Copy Left

Contact us

Contact Sawt al' Niswa via:

You can also find us on: