عزَة شرارة بيضون
من كتاب: عزَة شرارة بيضون. مواطنة لا أنثى. بيروت: دار الساقي، 2015: 239-40
أذكر أننا بعد عودة الوفد الرسمي من بكين—حيث عقد مؤتمر المرأة العالمي الرابع في العام ١٩٩٥—دُعينا الى اجتماع عام في دار الندوة في رأس بيروت للتداول حول ما يسع المهتمات من النساء (أفراداً وجمعيات) عمله من أجل استئناف النشاط النسائي الرسمي وغير الرسمي الذي أطلقه التحضير لهذا المؤتمر. في هذا الاجتماع تمَ تداول موضوع "التحرر الجنسي" الذي بدا أن بعض رجال الدين الذين عندنا قد أبرزوها في الإعلام، من بين عشرات المسائل التي طرحت في ذلك المؤتمر، ليشنَوا على المؤتمر حملتهم التي أخذت أشكالاً مختلفة في سنوات ومناسبات لاحقة، ولا تزال. وأذكر أن أكثر من واحدة من الحاضرات أعلنت أنها ضدَ التحرر الجنسي متبنيةَ، بذلك، ما أطلقه رجال الدين على فقرة من فقرات التقرير النهائي للمؤتمر.
تأمَلتُ الحاضرات فبدا واضحاً أن الغالبية الساحقة منهن متزوَجات وفي أعمار تجاوزت الخمسين. هكذا برز سؤال بديهي لا يحتاج طرحه لأكثر من فطنة متوسَطة: هل يدرك هؤلاء أنهن لا يمثَلن "كل" النساء وأنهن يجهلن، على الأرجح، رغباتهن أو مطالبهن الراهنة؛ وفي ما إذا كان موضوع التحرر الجنسي، مثلاً، أولوية لديهن أم لا، وأنهن غير مخوَلات، تالياً، للجزم حول أهمية الموضوع، أو عدم أهميته؟ في ذلك الاجتماع لم يرتفع صوتٌ واحدٌ للقول إن من الأجدى التريَث قبل "رفض التحرر الجنسي"، أو قبل تحديد أولويات الانشغالات النسائية، ريثما يتمَ التأكَد من رأي النساء، كلَ النساء، والشابَات منهن على وجه الخصوص.
يبعث اليقين الذي يسمُ كلام بعض النسويات الكهلات في حيرةً وبعض الإرباك، وأجده من بعض بقايا التماهي مع الرجال "المتأكدين" والذين يذكَروننا، في أكثر من مناسبة، بصواب تحليلاتهم التي قامت بتشخيص مسألة ما لا تزال راهنة. وهنَ، إذ يكرَرن في كلامهن أو يُسندن في تحليلاتهن مراجع متقادمة، يوحين بثبات الأمور وبأن نضال النساء منذ ذلك الحين لم يقدَم شيئاً كفيلاً بتعديلات في الوضعية تستوجب إعادة النظر في تلك التحليلات. بل إن بعضهن يرفضن، مثلاً، التعرَف الى الشابات بحجج مختلفة: هذه تنتمي لتنظيم إسلامي فلا جدوى من السعي لمعرفة موقفها "المعروف"، وتلك المنظمة النسوية انشقت عن منظمة للمثليين وموقف مجتمعنا غير قابل بذلك التوجَه الجنسي، فلا ضرورة لاشتمالها مع منظمات غير حكومية نحن بصدد استكشاف اتجهاتها، وتلك مجموعة نسوية ملحقة بتنظيم سياسي محافظ و"نساؤه" محافظات بالضرورة، إلخ. هو يقين طارد للفضول، الشرط الضروري للتعرَف الى نساء لا يشبهننا، معزَز لأحكام تُخفض من امكانية التضامن فيما بيننا.
ولا تُعفى بعض الشابَات من المواقف الغير الودودة إزاءهن. وتجربتي مع بعضهن بيَنة على أنهن لا يبذلن الجهد الضروري للتعرَف إلى النسويات اللواتي سبقتهن الى العمل النسوي. ومن الدلائل على ذلك، مثلاً، أنهن لا يحضرن الى مواعيد ضربنها لنا لأسباب مختلفة، وهو أمر حدث معي أكثر من مرَة، وحدث مع أكثر من باحثة من زميلاتي.
لكنني أخشى، مع ذلك، أن يكون حضوري "عبئاً" على الناشطات الشابات وأحرص على تذكيرهن، والى تنبيه نفسي، بأن موقعي بينهن ينبغي أن يكون، على الدوام، مشروطاً بإصغائي الى نبض هواجسهن، ومشروطاً، كذلك، بصحَة استجابات أبحاثي لحاجاتهن. ويتعيَن عليَ في كل مرة تذكيرهن بأن لقبي الأكاديمي لا يصحَ، في مقام نقاش مواضيع راهنة تهمَهن، سبباً لصواب ما أقول، وأن "نسيانهن" ذلك اللقب ذو جدوى لنا، نحن الاثنين؛ فهو إذ يحثَني على عدم الركون الكسول الى معارفي، يشحذ حسهنَ النقدي لما يُقال، فلا يعشى على ذلك الحس بريق الألقاب التي أشعر، أحياناً، أنها تستخدم عندنا كي تهوَل على الآخرين وتحدَ من حريَة قولهم، بل إن هذه الألقاب تعمل بوعي على قمع استجاباتهن، وعلى استدعاء صراحة نقدهم.
أقول: إن نسويَات "الموجات" السابقة، تماماً كما هن نسوَيات الموجات اللاحقة، محتاجات الى بعض التواصل وإلى القليل من المغامرة: ننسحب نحن من مواقع يملكن هنَ معرفة أوسع فيها وتعبيراً أصدق عنها، ويحاولن هنَ الإصغاء الى الدروس التي تعلمناها من تفعيل النسوية عندنا، لأن تكرارها إضاعة لوقت ثمين. الانسحاب والإصغاء، كلاهما، فيهما من التواضع ومن المغامرة الضروريان لدرء التكرار—الموت.
Publisher:
Section:
Category: