سارة اميلين أبوغزال
في العام 1998، خضتُ تجربتي السياسية الأولى في لبنان، وللحق كانت عن طريق الصدفة. فلطالما كان طموحي الطفولي متعلّقاً أكثر بالتمثيل السياسي في رام الله وإنصاف اللاجئين الفلسطينيين من العقاب الجماعي داخل المخيمات. غير أن الصدفة شاءت وانا في طريقي الى حديقة الصنائع هرباً من ملل المدرسة أن التقي بمجموعة من الشبان والشابات يعتصمون ليلا نهارا على حائط وزارة الداخلية، وذلك لمنع ترحيل مقاومين يابانين كانوا قد شاركوا في عمليات ضد الاحتلال الإسرائيلي. فعلياً، لم يكن البلد على حافّة الانهيار كما هو الان. أقول هذا لأن ذلك اليوم شكّل الخطوة الأولى التي جعلتني أنحاز كيفما ما كان وأين ما كان ضد النظام اللبناني الطائفي، والتي مع الوقت أثبتت لي كيف أن الوحش الذي سمعت عنه وانا في منتصف المراهقة لم يكن احدى خرافات "الرفاق" ولم يكن احدى وسائلهم لإبهار الوافدين الجدد الى فضاء يساري كان في 1998 لا يزال جديداً ويحاول استيعاب نفسه في فترة ما بعد الحرب وفترة الإنماء والإعمار. كان النظام الطائفي وحشاً حقيقيا، كان ماكراً ولا يزال، ومع كل أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية ينجح في ان يحصل على طعام اكثر له، وينجح في إضافة عراقيل على الطريق التي توصل اليه وتحميه.
طبعاً، تلك المساحة الموجودة في البلد للتعبير والاعتصامات ضد هذا الوحش، نجحت في إقناعنا أننا لا نعيش تحت ظل ديكتاتورية ولا يُرمى بنا في السجون بمجرد ان نشتم احد المسؤولين. بالعكس، الشاشات والصحف موجودة، وكذلك صفحات التواصل الاجتماعية تكيل الشتائم والسباب على صعيد يومي وقلّما يتم ملاحقة أحد. احدى أساسيات أدوات الوحش هي خلق الوهم، نحاربه، ولا ننتصر عليه. غير أني والكثيرات والكثيرين مثلي، ومع مرور السنوات، اقتنعنا بأننا نعيش في ظل وحش ديكتاتوري قد نجح في تحويل البلاد كلها سجوناً ضيقة تضيق أكثر كلّ يوم. فكيف يمكن لنا الخروج الى الحرية، وتجويع الوحش وإضعافه تمهيداً لقتله وإزالته؟
إن الوحش يعتاش على الطوائف وعلى مخاوفها، فلا مكان للعيش في البلاد دون ان يكون في كنف طائفة تحملك معاركها، وتعطيك لقب المدافع عن وجودها، وتدافع عنك في وجودها الجماعي شرط أن يكون ولاؤك لمصلحتها. ومصلحتها في الغالب هي ما يعطي الوحش من امتيازات مناطقية ومحاصصات، ولا تصل هذه الامتيازات إلا لأقارب الوحش ويبقى لك إن احتجت أمرا أن تقبّل يد فلان للحصول عليه. وأغلب الظّن أن الناس يهملون احتياجاتهم تأجيلاً للحظات الذّل هذه، حتى نصبح قادرين على إهمال الأساسيات من الاحتياجات، فلا بأس بتدهور الكهرباء شرط أن تبقى الفاتورة في قدرة دفعها، ولا بأس بتأجيل الانتخابات والتمديد للنواب شرط الحفاظ على السلم الأهلي والهناء بنوم جيد.
ولا يخرج الناس من طوائفهم، لأن المكان الخالي من الطوائف لا يزال يافعاً وخجولاً ولا تشغره كتلة موحّدة متفقة على برنامج واضح. وأغلب الظن أيضاً أن الناس داخل الطوائف لا يعرفون شاغري الفضاء الخالي من الطوائف، ولا يعرفون الطريق إليه. ويضلّل الوحش الطريق إلى الخروج من الطوائف، فهو الطريق المؤدي اليه أيضاً، فيحاول من خلال أحزابه الطائفية استعمال الأدوات والشعارات التي توهم الناس بأنها حقيقية وتؤدي الى التغيير، رغم ان وجه الزعيم لا يتغير ورغم ان جوهر الخطاب الطائفي عن هذه الأحزاب لا تتغير. فكيف يمكن مد جسر الى الناس، يعبرون منهم واليهم، وكيف يمكن استعمال الفضاء الطائفي كمكان لإحداث تغيير؟
منذ عشرة أيام والوحش يفرض شروطاً جديدة على العيش في هذه البلاد، وهي إما القبول بأموال تُصرف على شركة نفايات جديدة يعود ربحها الى جيوب خاصة، إما النفايات. والحق يقال إن الوحش قد وصل الى مرحلة من التخم قد أفقدته عقله، وفي أحرج اللحظات التي تعيشها المؤسسات الحكومية وفراغ الرئاسة. وحتى لا يعتقد الناس أن الوحش منهمك أو مرتبك في أزمته السياسية، يقوم، وبكل ثقة، في عملية ذلّ لسكان البلاد ويغرقهم في نفاياتهم ويفقدهم إنسانيتهم من خلال تقليب مناطق على الأخرى، ويحاول إقناع سكان بيروت بأن رمي النفايات في عكار أو الإقليم حل وحيد للتخلص من نفاياتهم، ويحاول إفهام سكان المناطق أن للعاصمة امتياز وأن عليهم تحمّل نفاياتها، كل هذا كي لا يتساءل سكان البلاد كافة عن السبب الرئيسي وراء ذلك، أو على الاقل كي لا يتساءلون عن موعد إيقاف إطعام الوحش.
Publisher:
Section:
Category: