مايا العمّار
عود على بدء. إلى الشارع. إلى الرحلات الاستكشافية الداخلية والخارجية.
عود على بدء. إلى الاختلاط القريب والبعيد. إلى المبادئ، والحوافز، والدوافع، والعواطف. إلى مساءلة ماهيّتها، ومواجهة من حدّدها لنا بعدما سكنت أنفسنا. من أنتم، من نحن، ومن نحن منكم؟ نوافق، لا نوافق، نتفاجأ، نقع، ثمّ نقوم. تلك الأسئلة، والأفعال المنبثقة منها، هي أجمل الفسح التي يشرّع أبوابها الشارع القائم من موتٍ متعمَّد ليخلق تفاعلاً حلواً ويفرضه علينا جميعاً، وأحلاه المفروض على من كان يرفضه منذ قليل.
لكن في خضمّ فورة الأدرينالين والنقاشات والاختلافات المصطحبة بزحمة المشاعر المتناقضة التي لا ضير من التمسّك بها، تتبادر إلى أذهاننا أسئلة نودّ لو نقعمها الآن، لولا عنادها الطفوليّ الذي ينكزنا بذلك الإصبع المزعج لدى كلّ محاولة بائسة لتأجيل طرحها. الأحد الماضي، أيقظ بعض المتظاهرين والمنظّمين الكلمة الجميلة النائمة من سباتها بقبلةٍ مُسِمّمة. والكلمة باتت أشهر من نار على علم.
تسبّب هذا الإيقاظ التلقائي بردود فعل تلقائية دافعت عن الكلمة، الأميرة النائمة، بعد أن أيقظها ظلماً بعض الأمراء الراغبين بالتحكّم بالمسارات، بما يتناسب ورؤيتهم الأحاديّة للأمور في الساحة. أتى هذا الدفاع في محلّه. فالتضامن الكامل ضدّ السمّ المبصوق داخل جسد الأميرة النائمة كان حقاً وواجباً، ولسنا بصدد مساءلة ضرورته المرحليّة أو الصدق الذي حرّكه والذي لمسناه في خبايانا... وكم كنّا مشتاقات/ين إليه.
لكن في المقابل، تعالوا لا نؤجّل نقد تلقائيّتنا الجميلة. تعالوا نمارس ما نستبشر به خيراً ونريده حيّزاً مثمراً للتغيير الفعلي، الشخصي-السياسي. تتذكّرون المقولة الشهيرة أليس كذلك؟ الشخصي سياسي. نعم. لكن العكس صحيح أيضاً. فما يتحكّم بمصائرنا وحيواتنا بشكل يومي يؤثّر فينا إلى حدّ بعيد، عن طريق شكلنة ما نطلق عليه صفة "الشخصي". وقد تختلط الأمور إلى حدّ يصبح مجرّد العمل على الفصل بغرض التمييز، فعل مقاومة يوميّ يتطلّب مجهوداً لا يُستخفّ به نطمح من خلاله إلى التفريق بين ما نحن عليه وما يحقّ لنا، وبين ما يتعمّدون حدوثه وتقريره لنا وعنّا. ولا داعي للهرب. فقد بدا تأثير السياسي المُصاغ بالمفردات والمفاهيم السائدة، جليّاً في تلقائية ردود الفعل المدافِعة عن الكلمة، وما ومن مثّلت.
بالفعل، عوملت الفئة المتّهمة بإثارة الشغب المُحِقّ، كالأميرة الجميلة من قبل الطرفين. فالطرفان جعلوها بالحدّ الأدنى تبدو غريبة، تائهة، وحيدة في الغابات، هي المُغّيبة عن القصر والمهدّدة بالقتل في ريعان شبابها. إثر ذلك، تمّ التعامل معها بشيء من الرومانتيكية التي تغرّب الآخر.
فمنهم من أيقظها بقبلةٍ مُسمِّمة ليذكّر بسُمّها ويرذلها منطلقاً من رؤية سوداويّة بأنّ للرومنسيّة الشوارعيّة قوّة تدميريّة للمسار التغييري؛ ومنهم من رفض رذلها منطلقاً من رؤية تفاؤلية بأنّ للرومنسيّة تلك قوّة بنّاءة تخدم المسار الثوري، إنّما من دون اللجوء إلى أيّ تساؤل حتّى الآن في شأن أفكار عديدة محيطة بهذه الرؤية، والتي بإمكاننا عدم التغاضي عنها في محاولة لمقاربة الأمور بشكل مختلف.
ففي رحلة الدفاع التي خاضها الكثيرون/ات منّا، دافعنا بالطبع عن وجود الفقير في التظاهرات (الفقيرة أينها، ندري ولا ندري)، وعن أولوية وجوده/ا ومحوريّته/ا كمتضرّر/ة أساسي/ة من النظام الطائفي-الذكوري وسياساته الفاسدة والإقصائية. لكنّ بعضنا ربط بشكل تلقائي بين الفقر والعنف، مكرّساً سماتٍ مُتصوَّرة، قد تكون أو لا تكون موجودة، في صفوف الفئات الأكثر فقراً وتهميشاً. وفي هذه التلقائية وجه من الطبقيّة، مقنّعة كانت أم مباشرة. وإذا كان جارنا الفقير يتصرّف بأسلوب "عنفيّ"، أثّر في تبلوره تحمّلُه لضغوط معيشية واقتصادية خانقة وتجارب قاسية وقاهرة مع الشرطة، فجاره الفقير أيضاً الذي إلى جانبه لم يتصرّف بالطريقة نفسها، وأحياناً كان يحاول تهدئته. لذا، إنّ القول إنّ الحرمان هو الدافع الأوّل إلى "الشغب" مقاربة تبسيطية بعض الشيء. والمفارقة المهمّة هنا هي أنّ الجار الفقير المتحمّس، عموماً، لم يوجّه "عنفه" ضدّ غيره من المتظاهرين في الساحة، بل ضدّ السلطة ومن يمثّلها من قوى أمنية وحرّاس القصور المدنيّة والحكوميّة، التي غُيّبت عنها أميرتنا النائمة.
غير أنه وفي رحلة الدفاع تلك، اشتُمّت رائحة الربط ما بين الفقر والعنف بطريقة أوتوماتيكية، في حين أن تركيبة مثل هذه يجدر بنا العمل على تفكيكها بشكل جديّ، بدءاً من دردشاتنا. انظروا إلى الحكّام وعنفهم اليومي. انظروا إلى المحامي الثريّ أمين أبو جودة، ملك الغابة الذي غَيَّب الأميرة ولا يزال خاطفاً روحها وحابساً أنفاسها. هو العنيف الحقيقي الذي يمارس سلطته الذكورية والطبقيّة على زوجته بشكل خاصّ، وعلى غيرها ممّن حوله أيضاً لإخضاعهم لحكمه. انظروا إلى الفقراء على تنوّعهم، ولا داعي بعد اليوم للشعور بحاجة إلى تبرير "العنف" بحالة الفقر والحرمان. فغضب الكثيرين وأسبابه العديدة كافية لينتج عنها ما تصلح تسميته "شغباً موجّهاً" أكثر منه عنفاً بمعناه المُدان- ما دام شغباً موجّهاً ضد السلطة من أجل الدفاع عن نفسٍ سئمت سلوكيات أجهزتها السياسية والأمنية وممارساتها القمعيّة.
الواضح في ما نراه بأمّ العين هو أنّ جرأة بعض الشبّان وامتلاكهم الفطري لوسائل المواجهة النفسية مع السلطة، وإبداعهم الخلّاق في صنع الأسلحة البيضاء، تتخطّى بأشواط جرأة المواطنين/ات والناشطين/ات والفنّانين/ات الموجودين/ات في الساحة. وهنا يُطرح السؤال التالي: في غياب هذا الإبداع، من كان ليواجه القوى المدجّجة بالسلاح التي اعتدت علينا يوم السبت الفائت وتعتدي على الكثيرين كلّ يوم؟ ثمّ يقودنا هذا السؤال إلى ما هو أبعد منه، فنستخبر أنفسنا لنستطلع آراءها. يا نفس، هل إنّ مواجهة هذه القوى وإحداث الشغب أصبحا هما الهدف، أمّ أنهما تكتيك محدّد ووسيلة دفاع يسمح لبعضنا بتخريب ما يشعر ويعلم بأنه لا يملكه (وسط المدينة المزيّف مثلاً)، والدفاع عن النفس من الهجوم الأمني-العسكري (نموذج السبت الفائت)؟ أين المطالب القصيرة والبعيدة الأمد من الأهداف واستراتيجيات العمل التي نتطلّع لأن ننسج بها حاضراً وغداً يليقان بنا؟ يُسأل هذه السؤال قبل يومٍ من تظاهرة الـتاسع والعشرين من آب في سياقٍ لمس ضمنه العديد من الحاضرين/ات في التجمّعات في ساحة رياض الصلح أنّ الهدف بالنسبة لعدد من المتظاهرين تُجسّدُه لحظة الوصول إلى المواجهة المباشرة، أي لحظة تهجم أو "تُستفزّ" بها القوى الأمنية المُولج إليها في هذه الأيّام حماية الحكّام وحراسة ممتلكاتهم. فقد شكّلت تلك اللحظة، بأعين بعض الشبّان، الذروة التي يصبو التحرّك إليها. هي المُبتغى. هي النشوة. فماذا يعني الاستفزاز إن لم يكن محدثُه باحثاً عن ردّ يسمح له بالردّ للإفراغ عن بعض ما في مخزون الطاقة الضحمة والمحتبسة في قفص لا يسعها؟ فلا ينفّس صاحبها عنها سوى بالتألّم والكفاح اليوميّ بصمت، أو بالنرجيلة والحبحبة، أو بالصلاة والصوم، وغيرها من الأمزجة وسبل النجاة التي تتكشّف طيّاتها فينا وفي غيرنا يوماً بعد يوم.
لكن لنتحدّث قليلاً عن هذه الطاقة الموجودة والمُحفّزة لارتكاب بعض المحظورات لتحدّي الظالم والدفاع عن كرامة مُنتزعة لا يملك صاحبها بالضرورة الكلمات المناسبة أو الخطاب اللازم للتعبير عن سخطه اتجاه انتزاعها، فيعبّر عنه على طريقته. جميل إلى هنا. ثمّ يأتي من يتطلّع إلى تبنّي الطريقة نفسها وهو لا يتشارك وزميله الغاضب في التحرّك الطاقة نفسها، وبالتالي، العفويّة نفسها. ولا يمتلك بالضرورة الغضب ذاته أو يتشابه معه بأدوات التعبير، لكنّه من الذين يرون في قوّة الرومنسيّة التي ظهرت مع إيقاظ الأميرة النائمة الجانب البنّاء الذي يخدم المسار الثوري. غير أنّه بدت في بعض التصرّفات الدفاعية أو الاندماجيّة، طبقيّة (ولا نقصد بها الشتم إذ في كلّ واحد/ة منّا رواسب منها)، تشبه طبقيّة من نتّهمهم/نّ بامتلاك الحسّ بالفوقية اتجاه الآخرين، والذين يؤثّر "السياسي" النابع من بعضهم وأهرامهم، فكراً وممارسةً، في "الشخصي" القابع فينا. إنّما في هذه الحالة، يمكن القول إن ذاك النوع من الطبقيّة تجلّى بطريقة أخرى، اتّسمت بالمَشهدة والأداء المصطنع المصحوب تارّة بنوعٍ من تنقية الذات من الإحساس بذنب ناتج عن الشعور بالقدرة على الوصول إلى موارد أكثر، وطوراً بالمزايدة على الآخر/الأخرى بالنقاء الثوري والحسّ التضامني-الانصهاري، وغالباً، بمتخيّلات الطبقة الوسطى التي في الرأس عن الفئات الأكثر تهميشاً، والتي تجعلها تبدو رومانتيكية، ومثيرة للاهتمام، وتحولّها حلبة متصوَّرة يؤدّي فيها من لا ينتمي إليها دوراً لا يشبهه تماماً. فيسهم ذلك، بطريقة أو بأخرى، بتعزيز تغريبها، وإرباك التفاعل الطبيعي معها، كلّ من حقيقة موقعه، وبساطة قدراته، من دون تزلّف.
في النقطة الأخيرة، نسلّط الضوء على تلك الطاقة التي نتحدّث عنها ونشهدها في الساحات، تحديداً كنساء متحسّسات لطبقات القمع المتعدّدة والمتشابكة التي تحوك عوالمنا، فنسأل: هل مواجهة السلطة وطبيعة أجهزتها الذكورية بعقيدتها وعتادها وعدادها، لا يكون إلّا بأداء ذكورة مضادّة تقف لها بالمرصاد؟ وهل إنّ بعض الشعارات التي نسمعها من هنا وهناك صديقة لنا على تنوّعنا؟ وهل يجب أن نصمت كي لا نفسد "ذروة" التحرّك ونشوته، حين نسمع أنه ثمّة من يطمح إلى أن "ي..." الدولة "الشر...."؟ أو أن يضرب العامل السوري في طريق عودته إلى البيت من بعد التظاهرة؟ أو أن يتناسى أنّ النساء ذقن مرّ النظام الزبالة ولم يكترث أحد؟
في الأيام الفائتة، رأينا نساء واجهن القوى الأمنية بشجاعة مُلهمة، ومنهنّ من نظّمن أنفسهنّ ومجموعاتهنّ بحكمة وجدارة، ورأينا إلى جانبهنّ شبّاناً نشطاء يناضلون معهنّ، ومنهم من كانوا يدعمون مساعي التهدئة لدى التصعيد غير المدروس الذي كان ليشكّل خطراً على حياة الشخص الذي يتحضّر لرمي نفسه، ومن حوله، في النار. وبالطبع، السلطة لم ولن ترحم هؤلاء كثيراً، وستظلّ منزعجة من وجودهم/نّ. إلّا أنّه في المقابل تطغى موجة دفاع عن، أو بالحدّ الأدنى، قبول بتصدير شكل من أشكال الذكورة/الذكورية المتحمّسة في وجه الذكورة/الذكورية المُمأسسة، يقود إلى اعتراف ضمنيّ بطغيان صراع كهذا في الساحة، محوره العنف. المشكلة تكمن في أنّ هذا الصراع في حال استمرّ على إيقاع المعزوفة نفسها، من شأنه أن يرسّخ أنماطاً مؤذية، وأن يهمّش أشكالاً وأدوات أخرى من النضال التوّاق إلى التحرّر من الجمود التعبيري-الذكوري، ومن القيود الذي يفرضه الوجود داخل علب الرجولة ولُعَبها القاتلة باسم الشغف والشرف... والرومنسيّة.
في أية حال، فليكن غداً مساحة لخلق تعبير متنوّع ومتجدّد. فلتكن مساحة الغد للتحوّل والتحويل والقراءة وإعادة القراءة. ولتبقَ أسطورة الأميرة الجميلة نائمةً بسلام في سريرها. الأميرة ستستيقظ لوحدها.
Publisher:
Section:
Category: