عن انقطاع الكهرباء كعنف ضد النساء

"الله يسامحن قد ما عم بيعذبونا... كهربا وماي ودولة خليها ع الله والناس كلها تعبانة. حرام عليهن يعملو فينا هيك."

هذه الأيام أسمع الكثير من النساء يشتكون من أنهن يرمين الطعام الذي في البراد بسبب انقطاع الكهرباء، وهي نفس القصة التي أسمعها كل صيف حيث تنقطع الكهرباء لأكثر من 9 ساعات متتالية في عزَ الصيف. وأسمع من حولي قصصاً أخرى عن جيران وأقارب خرجوا حديثاً من عمليات جراحية أو يعانون من آلام الديسك او هم أكبر سنناً، يعيشون في بنايات ويضطرون الى استعمال الدرج بسبب انقطاع الكهرباء للمصعد. وكامرأة تعتمد على الكومبيوتر في عملها، يؤثر انقطاع الكهرباء على انتاجيتي بشكل متكرر. لهذا، وفي وقت يكثر الكلام عن العنف المباشر في التظاهرات  الحالية ضد فساد الطبقة السياسية اللبنانية، يذكرنا انقطاع الكهرباء أن سبب هذه المظاهرات هو العنف البنيوي أي عنف النظام الذي يمنع عنا احتياجاتنا الأساسية كالكهرباء والماء وفرص العمل وحقنا بعدم وجود أي مصدر يهدد صحتنا وعيشنا، كالنفايات. اقرأ عنوان مقالتي وأتردد للحظة. حتى وأنا قد درست ودرَست عن العنف البنوي، لا يزال مصطلح "العنف ضد النساء" في ذهني يستحضر صور وأمثلة من العنف المباشر عليهن. لكن انقطاع الكهرباء هو عنف، هو ليس فقط انقطاعاً وانكفاءً (بصيغة المستتر) بل هو تعدي فعلي على حياتنا وأعمالنا وصحتنا. وهو يشمل عنف ضد النساء.

 في هذا المقال اذاً أدخل في تفاصيل هذا التعدي على على حياة النساء العاملات في بيوتهن، لبنانيات وسوريات، متزوجات وغير متزوجات، والذي يزيد من الأعباء. وتضاعف العنصرية من أعباء النساء الذي يخلفها نقطاع التيار. ويبقى احد اهم أداة للحد من الضرر والضغط جراء هذا العنف البنيوي هو العلاقات التي تخلقها النساء. وفي التظاهرات الحالية ضد الفساد، يتضح لنا أن انقطاع الكهرباء والماء والاحتياجات المعيشية هي سبب نزول عدد من النساء الى الشارع. وفي الوقت نفسه، يصبح انقطاع الكهرباء في شوارع وسط بيروت في ليالي المظاهرات اداة بنيوية أخرى تزيد من احتمال العنف الجنسي والجسدي.

تتأثر النساء بانقطاع الكهرباء كأي شخص يعيش في هذا البلد لأنهن جزء من المجتمع، متواجدات في معظم المساحات والقطاعات. لكنهن ايضاً يتأثرن بطرق محددة، بالأخص النساء اللواتي يشكلن القوى العاملة الأساسية داخل البيت وتقع عليهن مسؤولية ادارة احتياجات افراد عائلاتهن. وحتى مع عمل النساء في وظائف خارج المنزل، لا يزلن العاملات الأساسيات (وفي معظم الأحيان الوحيدات) اللواتي يقمن بالأعمال المنزلية واعمال الرعاية، إما بأنفسهن او من خلال "تفويض" نساء مهاجرات للمساعدة أو للقيام بكافة هذه المهمات. لهذا كان اهتمامي في ان اكتب عن هذه الفئة من النساء (بالطبع من دون تعميم صفة "ربات البيوت" والعمل المنزلي على كل النسوةفاسأل بعض النساء عن تفاصيل تأثير انقطاع الكهرباء عليهن وعلى أشغالهن.

تذكرني ليلى أن معظم عملها يعتمد على الكهرباء "الغسيل. الكناسة. الكوي. الفرن." لذلك حين تنقطع الكهرباء "بيوقف كل شغلي."[1] لكن النساء ايضاً ينسقن برنامجهن اليومي مع التقنين، أو يسارعن الى انهاء الأعمال الأساسية لكل يوم ما إن تأتي الكهرباء.

وقد تستطيع بعض النساء الاعتماد على الموتور او البطارية لادارة اعمالهن —رغم التكاليف الاضافية ورغم عدم قدرة الموتورات على تحمل كل الأدوات المنزلية (كما تقول سلوى: "أوقات بينقطع الموتور... بدي دوِر المايكروايف ما فيني... ال{المكيف} ما بتدوريه. كوي ما فيكي تكوي لأنو 5 أمبير بس."   لكن هناك اخريات لا يستطعن تحمل كل هذه التكاليف.

يصبح انقطاع الكهرباء اكثر عبئاً على اللاجئيين الذين يعانون ايضاً من العنصرية والغربة والحد من حريتهم في التنقل. مثلاً، نتيجة حظر التجول  في الليل المفروض على السوريين المقيمين في بعض المناطق اللبنانية، لا تستطيع النساء تدبير امور عائلتهن عند انقطاع الكهرباء، حيث يمنع عليهم الخروج من البيت لشراء الشموع او الكبريت او أي من الاحتياجات الأساسية. وهنا تصبح العلاقات التي تكونها النساء مع  جاراتها مهمة لنجاة العائلة في هذه الظروف.

تخبرني زكية، وهي لاجئة من سوريا، بأنها لا تملك براداً فتضع طعامها في براد جارتها (وهي لبنانية-سورية). لكن مع انقطاع الكهرباء؟ "شو بدي أعمل؟ بطبخ الطبخة وبكبها. كل يوم ...مناكل منها شوي ومنكبها." وهي وجارتها تعانيان فتضطران الى رمي اللحمة والطعام: "بحط {الأكل} عند الجارة، هيي بتكب لحمتها وأنا بكب." وبما أن زوج زكية لم يستطع أن يجد وظيفة، عملت في الزيتون والرمان وابتاعت غسالة مستعملة. وهنا ايضاً تعاكسها الكهرباء فتغسل "عل الإيد... وقت ما في كهربا الولاد... ما عندن ثياب كتير، بضطر اني اغسلهن ثيابهم."  وفي حين يضطر الكثير من الأولاد  للدراسة على ضوء الشمعة، يعاني اولاد هذه العائلة، كغيرهم من الأولاد اللاجئين، من عدم قدرتهم/السماح لهم في الذهاب الى المدرسة.

فمما لا شك فيه ان انقطاع الكهرباء يزيد من الأشغال ويصعبها، وهو عبء اضافي جسدي ومعنوي تتحمله النساء (كالغسيل على اليد ورمي الطبخة كل يوم) ويكون مخفياً في الكثير من الأحيان، أي قد لا يدرك افراد الأسرة مدى التعدي على حياة النساء وعلى اطالة ساعات عملهن وعلى صحتهن الجسدية والنفسية. كما لا نقدر كيف تغير وتنسق النساء عملها مع ذهاب وعودة الكهرباء او كيف تبتدع طرق للتقليل من الأضرار والتي قد نأخذها كشيء من المسلمات (كنشر الغسيل بطريقة يخفف من الحاجة الى الكوي) بدل أن نراها كبراعة في مواجهة الاعباء وفي تأمين احتياجات العائلة. ويعزز انقطاع التيار الأدوار التقليدية وثنائية/انقسام حياة النساء وحياة الرجال (كما يفعل عنف الدولة عادة). فالأرجح أن الكثير من الرجال في البيت لا يتطوعون للمساعدة في تحمل هذه الأشغال الاضافية، بل قد يخرجوا من البيت في حال انقطاع الكهرباء. أما حين يكون في البيت فتيات او نساء أخريات يكون متوقع منهن في الكثير من الأحيان المساعدة. فهنا يكون قد اُعيد تعزيز الأدوار وأعيد تخصيص المساحات داخل البيت كمساحة نسائية وخارجه كأماكن للرجال. ويزيد غياب الكهرباء من توتر أفراد العائلة التي غالباً ما تقع مسؤولية استيعابه على النساء كاحدى المهمات الرعائية المتوقعة منهن. لكن هنا ايضاً غالباً ما يكون اعتماد النساء على بعضهن امراً مهماً، مثلاً من خلال وضع الاكل في براد الجارة التي يكون برادها أكبر او التي عندها موتور يمكن الاعتماد عليه أكثر، او من خلال الزيارات التي قد تحصل في أوقات اانقطاع الكهرباء في النهار.

 

أما في التظاهرات التي تقوم حالياُ ضد فساد الطبقة السياسية على خلفية أزمة النفايات، وفي ليالي المظاهرات تحديداً، يتقاطع عنف الدولةأي عنف قوى الأمن والقرارات السياسية التي تحرك هذه القوى، مع العنف البنيوي الذي هو انقطاع الكهرباء في شوارع وسط، ضد المتظاهرين والمتظاهرات بشكل خاص. فتقول ستيفاني (من صوت النسوة): حين تنقطع الأضواء في الشارع، الدولة تجعلنا غير آمنات.

 وتعرف النساء والنسويات أهمية اضواء الشوارع لشعورهن بالأمان، وبأن المساحات المظلمة هي اماكن غير مرحِبة للنساء وللأشخاص الترانس والذين يخرجون عن معايير جندرية  وجنسية محددة في هويتهم ومظهرهم وأدائهم، وتحمل خطر العنف والتحرش. وفي المظاهرات يصبح هذا الامر اكثر جلياً مع ملاحقة عناصر الأمن --او افراد ومجموعات أخرى، لِفض الاعتصامات أو تخويف المشاركين فيها. اما من اهتم للاعتصام وتابعه من خارج الساحة، يمنعنا انقطاع الكهرباء من معرفة أخبار المتظاهرات والمتظاهرين ومن نشر آخر مستجداتهم على تويتر وفايسبوك، فيصبح عنفاً معنوياً أيضاً، الى جانب كونه عنفاً بنيوياً.

في احدى المظاهرات، سألت زميلاتي في صوت النسوة النساء لماذا نزلن الى الشارع، فجاوبت احداهن: "لأنو ما عنا كهربا وما عنا ماي. مش لازم حدا يسأل ليش." ومع العلم بأن هذا الحديث جرى من امام شركة الكهرباء حيث اقيم اعتصاماً هناك، لا ينفي ان فئة من النساء ينزلن الى الشارع للتظاهر ضد هذا التعدي على حقهن وحق عائلاتهن في الكهرباء والماء، كما يتكلمن بحسرة عن هجرة ابنائهن بسبب ضيق فرص العمل في لبنان.[2]

 

معظم النساء اللواتي أجريت معهن مقابلات لهذا المقال لم ينزلن الى الشارع، لأسباب تتعلق بكونهن نساء "ربات بيوت" او لاجئات او متقدمات في السن او يعشن خارج بيروت، او ربما لأنهن لا يعرفن الكثير عن هذا التحرك وقد لا يثقن به. ولكن عبَرت كل هؤلاء النساء عن سخطهن تجاه الدولة والسياسيين. وبدى واضحاً عدم جعلهن هذا العنف أمراً طبيعياً يعتدن عليه، رغم استمراريته. احدى النساء مثلاً تكلمت عن غضبها لأن الدولة تُسيِر حياتها وتسيطر على جدول أعمالها: "بدنا نكوي ساعة اللي بدن هني، ساعة اللي بيعطونا الكهربا." وتساءلت ليلى لما لا يؤمن السياسيين كهرباء للناس بدلاً عن بناء القصور؟ وتقول جارتها لبوة " الله يسامحن قد ما عم بيعذبونا، كهربا وماي ودولة خليها ع الله والناس كلها تعبانة. حرام عليهن يعملو فينا هيك." اسألوا النساء فيقلن لكم ان هذا العذاب الذي تتكلم عنه لبوة ليس مجازياً، بل عذاب اقتصادي وعملي ومعنوي يمارسه النظام علينا-- نحن الذين تعبنا من هذا التعدي، من خلال سياسيين يجب محاسبتهم على فشلهم في تأمين أبسط حقوقنا المعيشية.

 

شكر خاص لستيفاني جسبيه لمساعدتها في اجراء المقابلات ولنقاشات حول المواضيع المطروحة هنا. هذا المقال بدأ من خلال العودة بالذاكرة الى "وطن التستسترون: أنا هنا" لسارة أبو غزال.



[1] تجدر الاشارة هنا ان معظم اللواتي اجريت معهن مقابلة لهذا المقال لا يوظفن عاملات مهاجرات في بيوتهن، وأن هذا المقال ينقصه اصوات العاملات المهاجرات وعلاقتهن مع الكهرباء، خاصة وأن هذه العلاقة قد تكون مدارة في الكثير من الاحيان من قبل "ربة المنزل" التي تأخذ قرارات العمل اليومي.

[2] كما تشير الكثير من النسوة اللواتي تم اجراء مقابلة معهن في راديو صوت

Publisher: 

SawtalNiswa

Section: 

Category: 

Featured: 

Popular post

Our portfolio

We wouldn't have done this without you, Thank you Bassem Chit - May you rest in power.

Copy Left

Contact us

Contact Sawt al' Niswa via:

You can also find us on: