ناي الراعي
خسرت "حبّي الأول" بسبب مناكفاتنا الدائمة، لأنني انتقدته كثيراً ولأنني كنت أعبّرعمّا يزعجني في علاقتنا. كرهت بعدها هذا الشاب لفترة طويلة، ليس بفعل الانفصال بل لأنه اخبرني بأننا لن نستطيع أن نعود لبعضنا رغم حبّه لي، لأنه مسافر للدراسة في الخارج وهو مقتنع بأن علاقات الـ"لونغ ديستانس" محكومة بالفشل. وبعد شهرين على عسل الكلام، علمت بأنه يواعد أخرى. بقي معها طوال سنتي دراسته في الخارج.
وَجَد هذا الكره جذوره في أن فخر الصناعة الهوليوودية كانت قد أفادتني طوال سنوات مراهقتي أن الذي يتفوّه بكلمات الحب يعني ما يقول، وأن الذي يحبّ لا يكذب، ولا يسمح للظروف بأن تكذّبه في عين حبيبه، وأنه لو أحب فعلاً، لا شيء يحول دون بقائه مع الذي يحبه.
في عائلتنا، لم نكن نناقش مشاعرنا كثيراً. ربما لأننا كنّا نخجل من ذوينا، أو ربما لأن أحكام النظام الأبوي قضت بتجاهل المشاعر باعتبارها تنتمي إلى الفضاء الأنثوي. والنساء يعرفن جيداً كيف نُثنى باستمرار عن التعبير عن أنفسنا – لا حباً ولا غضباً– وكيف نتعلم أصول كتمان المشاعر، بالتوارث الصامت والمشاهدة البكماء لممارسات سالفاتنا، دون مساءلة.
ولذا شكّلت الشاشات على أنواعها مصدر معلوماتي عن الحب. سينما هوليوود، مسلسلات شكري أنيس فاخوري والمسلسلات المكسيكسة، إضافة الى إعلانات أيكزوتيكا.
وأنا صدّقت أن الحب في الواقع، كما ذلك الذي على الشاشة، ينتصر دوماً. وأن كل ما أحتاجه في هذه الدنيا هو الحب، وأن الحب هذا حين يأتي، شيئاً لا يستطيع الوقوف بوجهه، وهو لا يعرف عمراً ولا عرقاً، ولا يقيم اعتباراً للإمكانيات الإقتصادية ولميكانيكيات المجتمع. ومع أنني كنت أعرف أنني لا اشبه أي من الشخصيات التي كنت أشاهدها أو أقرأ عنها، ولا شعرت يوماً بأنني "الأميرة"، إلا انني كنت مقتنعة بأن أميري آتٍ لا محالة. لا أذكر متى توقّفت عن انتظار الأمير- بضع سنوات بعد فقدان الإيمان ببابا نويل- لكنني أذكر انني في مراهقتي أبقيت على قناعة واحدة هي أن الحب وحده يكفي لكل شي، ولأي شيء.
وممّا لقنتني الشاشة عن الحب، أنه يحدث بين رجلٍ بجسد ذكر وامرأة بجسد انثى. وأن الذكر هو الذي يطارد ويحارب ويتوّسل للفوز بقلب المرأة، وأنه إذا أحبّها، فعل المستحيل من أجلها وأنه حين يصل إليها، يستحيل أن يؤذيها، أو أن يكذب أو أن يخون. أن "اللي يحب يبان في عينيه". أن الذي يحب يعترف لمن يحبّه، لكن الرجل هو الذي يبوح أولاً. ويصبح البوح هذا شرطاً لبقاء الحب، وكتمانه افتراض لغيابه. وأن العلاقة الجنسية تحصل بين متحابّين فقط، وأن مصير كل من يحب أن يقترن بمن يحبّه مدى الحياة وأن يسعدا نتيجة ذلك إلى الأبد.
في كل ما شاهدت وسمعت عن الحب وفيه – ودوماً عبر الشاشة، غالباً ما كانت الـ"هي"، بطلة القصة، ساكنة، متلّقية، والـ"هو"، البطل الحقيقي الذي يتحدّى العالم والعائلات والتقاليد والفقر من أجلها. علّمتني الشاشة أن المرأة خُلقت كي تٌحب وتُصان وتُحمى، وأن كلهن، النساء، مشاريع حبيبات، وزوجات، وأمّهات. بهذا الترتيب الزمني. وأن حبيب المرأة الأول هو دوماً والدها وأنها تنتهي دوماً في اختيار شريك يشبه حبّها الأول هذا. تختاره ليحميها كما سبق أن حماها والدها في صغرها: من حمى الوالد إلى كنف الزوج.
وفيما أنا أتعلّم كل هذا، تخطيت مأساة حبّي الأول، وبدأت أحب وأواعد وأدخل وأخرج من علاقات لسنوات سقطت خلالها كل أساطير الشاشات عن الحب، لكنني تمسّكت بواحدة نجحت الشاشة بتثبيتها فيّ، وهي أن "الحب الحقيقي" لا يوقفه أي عائق لذا فإن العلاقة التي تنقطع، تنقطع بسبب ضعف في الإرادة أو نقص بالحب.
بدأت تظهر التناقضات بين الحياة والشاشة. بدأت أرى وأعيش علاقات لا تنجح ولا تدوم، وأتساءل لمَ تفشل؟ أهي علاقاتي أنا فقط التي تفشل؟ ألأنني لا أشبه اللواتي أراهن على الشاشة؟ رحت، عن غير وعي، أبحث عن الحب الذي يبيعونه في هوليوود في كل علاقاتي. عشت بانفصام نَزِق لسنوات، بين طبيعتي السريعة الاختناق والمشكّكة بكل شيء، وبين المثالية الزهرية التي أراها في كل زوايا ثقافتنا الاستهلاكية. صاحب الانفصام، عدم رضى مسبق دائم وخيبة سابقة لمسبّبها، فتجنّبت لعبة المواعدة طويلاً وترجمت نَزقي بشروط تعجيزية ومعايير غير واقعية للذين واعدتهم. في زاوية ما من عقلي، كنت أنتظر هذا الذي سيلحق بي ركضاً إلى المطار ليعترف لي بحبه ويقنعني بعدم السفر. انتظرته كثيراً. أين كان؟ وأين هو أصلاً؟ ومن يدفع ثمن انتظاري وخيباتي المتتالية؟ اسألوا ديزني. وأحذية الأميرات النائمات. اسألوا والد الأميرة النائمة أين كان شرف عائلتها يوم قبّلها الأمير لتصحو، وهل أعادها إلى سبات أعمق وأطول بلكمة على وجهها بعد أن تزّوجها؟ أو لا، لن نسأل إمارة ديزني لأنها لا تعرف شرف مجتمعاتنا.
اسألوا إذن ريتشاد غير وهوسه بالمرأة الجميلة التي نكرت جميله، وبعده فلنسأل عاصي الحلاني الذي أبى إلا أن يطّوّر نسخة لبنانية عن تراجيديا غرام رجل ثري بفتاة "شارع" جميلة، لم تهتم هي سوى بماله فتركته عندما قضت حاجتها. اسألوهم كلّهم. أين نجد الحب الذي يبيعونه في هوليوود؟ هذا الذي ينتصرعلى كل شيء، والذي يكفي لتخطّي كل العقبات؟ لمَ لا يبيعونه هنا؟ لم تقل لنا الأفلام أن كل قصص الحب لا تنتهي بسعادة. تركونا لنكتشف ذلك بأنفسنا. تنتهي الأفلام بالثنائي السعيد يتبادل القبل. نراهما يرحلان معاً مع غروب الشمس. تنتهي القصة وتفوتها الفصول الدموية بين الزوجين ما بعد الزواج. يفوتها العنف الزوجي، التي صرت أسمع به وأقرأ عنه كل يوم من حياتي تقريباً.
لكن دعونا لا نغتم لأنه في النهاية الحب يربح. أين يربح؟ وكيف يجب أن يكون شكله، هذا الحب، ليربح؟ وماذا يربح؟ الملايين التي ستشتري المجوهرات والورود وبعدها بيت الثنائي، الأرجح.
ثم تعقّدت أسئلتي. صرت أجد حصرية الحب بين المرأة والرجل مريباً. وحتمية وجود الحب كشرط لسعادة النساء تحديداً، غريباً ومنفّر. ماذا عن النساء اللواتي يحببن نساء؟ ماذا عن اللواتي لا يتزوّجن لعدم إيمانهن بمؤسسة الزواج؟ ماذا عن اللواتي لا يرتبطن لأن الحب وحده سبق أن لم يكف مرّة؟ ماذا عن النساء اللواتي يعجزن عن الحب لعدم تمكنهّن من الحب على طريقة مروان نجّار؟ ماذا عن اللواتي يخفن الارتباط خوفهن من مصير والداتهن؟ ماذا عن اللواتي يحببن من طرفٍ واحد؟ ماذا عن اللواتي يحببن معنّفين؟ واللواتي يقتلهن هذا الحب؟ ثم ماذا عني؟ ماذا لو أحببته من لم يحبني؟ ماذا لو لم أجده اصلاً؟ وكيف سيكون شكل هذا التجربة حين لا تتطابق والشروط التي نتجرّعها يومياً؟
وعندها، وقعت على الاكتشاف الأخطر في حياتي. ثمة من خدعني. اكتشفت بنفسي أن تعقّب أحدهم لي من مكان العمل إلى المقهى مثلاُ بحجة الإعجاب ليس بـ"كيوت"، وأن مغازلة أحدهم لامرأة باستمرار علّها تعتاد وجوده، ليس برومانسية. اسمه العلمي والجنائي: تعقّب. لكننا كبرنا ونحن نعتقد أنه دليل قاطع على الحب، لأعود واكتشف أن معظم ما تُلصق به صفة "رومنسي" في الأفلام ، هو فعلياً مريب. بمَ أشعر مثلاً تجاه من يظهر على عتبة بيتي بعد سنوات من انقطاع التواصل بيننا، ليقول لي أنه طالما كنّ لي المشاعر وأنه كان يتتّبع أخباري طوال سنوات دون أن يحاول مرة الوصول إليّ ومحادثتي؟ لم تبلّغنا هوليوود كيف نرسم الخط الرفيع بين الرومنسي والمريب.
ثمة ما اكتشفناه متأخّرات. ثمة من تآمرعليّ وعلى وعيي العاطفي والسياسي وعلى جسدي وجنسانيتي. ثمة من استثمر لإقناعي ونساء جيلي، والأرجح نساء الجيل السابق واللاحق، أن تصرّفات المتعقبين مثلاً رومنسية وأن ضرب الرجل لزوجته في نوبة غيرة حب، وهو طبعاً استعدادها لإكمال حياتها معه على "علاّته" وإلى الأبد.
لذا فتباّ لهم. تباً لمن يريدنا تعيسات لأننا غير مرتبطات، لمن يريدنا أن نشعر بنقصٍ ما، أو بفشل، لمن يريدنا أن نبرّر عدم ارتباطنا. لمن يقصينا لأننا لا نحب بهذه الشروط. تباً لمن يريدنا أن نشعر بالاكتفاء والسعادة وأن نخرج إلى مطعم فاخر، لنحتفل – عبر شراء الهدايا والورود والعطور والفساتين - لأننا مرتبطات، وأن يشعرنا بالذنب إن لم نفعل.
تباً لمن يريدك بشكل وحجم ولون معيّن لتستأهلي الحب. حبهم هم. حب هذا النظام السامّ الذي يريدك أن تقارني نفسك بجوليا روبرتس ليسمح لك بأن تحبي.
يريدوننا أن نشتري الدبب، والورود. وقوارير العطور. والشموع، والذهب. أن نقيس ما نشعر به بمشترياتنا والهدايا التي نحصل عليها. يسعون إلى ذلك لأنهم يريدوننا أن ننتهي في علاقات تبعية اقتصادية واجتماعية وحياتية للرجال الذين نتزوّجهم ولذكورية نظامهم. تباً لهذا النظام الذي يقصي من لا يحبّ وفقاً لقواعده، ومن لا يشتري وصفاته السحرية للعلاقات المغايرة الناجحة، أو العلاقات التي لا تنجح إلا إذا كانت مغايرة. لذا فتباً لهم مجدداً، وبقدر ما تسعفني المساحة المتاحة لهذا النص للشتم. أكرههم. أكرههم جميعاً وأريد أن أعبّر لهم كم أكرههم بمناسبة عيد حبّهم. أصلاً وصراحةً، ليس أنسب من مناسبات النظام لتعبير كهذا.
Publisher:
Section:
Category: