في السادسة من عمري أصبح لخوفي اسم. كان اسم خوفي عبدو. و اكتشاف الخوف كان بطاقتي الى عالم النساء. هذا العالم السحري حيث نسرح فيما بيننا، ننظر الى بعضنا البعض و نبتسم :“أنا أعرف هذا الوجع”.
كبرت مع هذه القناعة:أن ما يعوض عن الخوف الذي يسكن خلايانا منذ الولادة كجزء متوارث من مخزوننا الجيني هو الجماعة. أنا و النساء و جلدنا المشترك. مساحات شاسعة من الجلد المشترك يعبرها جهاز عصبي واحد، خلايا عصبية مترابطة و دائمة التواصل، فما يلمس أو يوجع الجزء يلمس و يوجع الكل. كان يقيني أننا نحن النسوة كلنا نعرف الحقائق الأساسية دون الحاجة لتعلمها: أن الخوف يسكن في الركبة، و القلق في المعدة، و أن التحكم بشكل الشعر عبر قصه و تلوينه يساعدنا في السيطرة على الهلع حين نفقد القدرة على التحكم بأي شيء آخر. أنه حينما نقصّ أقاصيص المصائب التي تلحق بأجسادنا، دائماً ما نبدأ بجملة: “لم يكن بيدي فعل أي شيء لمنع هذا من الحدوث”و ذلك لاقناع انفسنا أكثر من أي شخص آخر. الأوجاع المشتركة كانت في ظنّي أساساً كافياً للتكاتف. فإني إن شهدت على تلقّي أحدهم لصفعة، يوخزني خدّي لعلمي المسبق و عن تجربة بالألم الذي ينمّ عن الصفع. فكيف لمن يتشاركن جلداً واحداً ألّا يتسابقن لحمايته؟
لذا، ورأفة بركبي، حملت خوفي وذهبت بها الى النساء حولي: “ان حاوطّتني على شكل دائرة، فلن يستطيع عبدو لمسي مجدداً!”. و رأيت النساء يلتففن حولي فعلاً، فأنا الآن بأمان. لكنني وجدت الدائرة تخفيني فتحمي عيون الرجال في عائلتي من رؤية ماقد يسيئهم و يرهق قلوبهم الضعيفة. أيعقل ألّا تكون الجماعة هي الخلاص؟
مع الوقت بدأ يتبين لي انه لإيجاد مكان لي في هذا العالم، سيكون عليّ أولاً استشفاف تفاوتات الجماعة و تناقضاتها. فليس كل من يدخل العالم السحري بأمان.
الجماعة اذاً لا تحمي الجميع. ربما هذه حقيقة ثابتة أخرى نعرفها بالفطرة و نتجاهلها أو نتناساها لأن شعور الخذلان الذي تخلّفه أشدّ مما نودّ. فغالباً ما أجد نفسي أصارع لأحمي إيماني بالدائرة. أذكّر نفسي دائماً بكل النساء اللواتي أنقذنني من الموت هلعاً، بمن علمنني كيف أكتب عن الأيادي التي تنهش جسدي دون أن أعتذر، بالغريبات اللواتي جلسن جنبي في الباص ليلاً و رفضن النزول قبل أن أصل الى محطتي، بأختي التي أدين لها بكل شيء. ربما أنا من المحظوظات اللواتي وجدن زاوية آمنة. ربما لهذا أشعر ليس فقط بالخذلان، انما أيضاً و خاصةً بالذنب حين أنظر لمن تلفظهم الجماعة خارجاً.
ربما عليّ أن أصارع للتغلب على أساطير طفولتي الساذجة بدلاً من التمسك بالإيمان. فخطورة الايمان أنه يؤخرنا عن الفعل العملي. حين تصاعدت الأخبار مؤخراً عن النساء و الفتيات السوريات اللواتي حبسن و استعبدن جنسياً في لبنان، صدمت لقراءة ردات فعل نساء لبنانيات وعربيات، “شريفات” يشرحن للملأ أن ضحايا الاستعباد اخترن مصيرهن بأفعالهن، ف”لا مبرر” لما فعلنه سوى أن “منبتهنّ سيء” و“أنهن بلا أخلاق”. لكن الصادم فعلاً هو صدمتي، هو تمسكي بميتولوجيا التضامن.
أستطيع تحليل وتعليل واستيعاب مكامن الخلل في إيماني. أعي إدراكياً لما لا تنتج التجارب المشتركة للألم تضامناً تلقائياً. فأنا أنتمي لشعب قُتل في قانا و غيرها بحجج واهية ولم يتوارى عن استخدام الحجج هذه بذاتها لتبرير المجازر في حلب و غيرها، و النوم قرير العينين. أعرف أن إيماني ساذج. يبقى لي أن أتعلم الكفر.
Publisher:
Section:
Category: