هذه جرائمهم، فليخجلوا هم بها

SAN Images 2016

 

عملية حسابيّة بسيطة، تجعلني أنتبه إلى أنني حاولت كتابة تجربتي عن العنف الجنسي مئات المرّات. أكثر من عشر سنوات وأنا أحاول. محاولاتٌ باءت جميعها بالفشل. يمكنني أن أحصيَ عدد النصوص غير المكتملة. مجموعة لا يتعدى الواحد منها بضعة أسطر. أقول لنفسي، هذا النص سيقتلني يوماً ما. ما الفائدة من أن نعيش المأساة مرّات عدّة. ما الفائدة من أن نتذكر؟ الكتابة عن الموضوع تشعرني أنني شخص مازوشي يحمل سوطاً ويقوم بجلد نفسه. ثم أتساءل، لماذا أكتب أصلاً؟ لماذا لا أنسى؟ ثم لا ألبث أن أشعر بالخيانة. يجب علي أن أكتب. فالأمر لم ينتهِ، ولا يمكن أن ينتهيَ ما دام كثرٌ وكثيراتٌ يتعرضون للأمر نفسه. يجب أن أكتبَ. لا لأحاكمَ أحداً ولا بغيةَ اللوم، بل لأعتذرَ، متأخرةً، من الطفلة التي كنتُها ومن المرأة التي صرتُها. أريد أن أكتبَ كي أعتذرَ من جسدي الذي لم أنفكّ يوماً عن كرهه ولومه.

ما زلت حتى يومي هذا أتساءل، أكان يجدر بهم تعليمنا الكلام ما داموا لاحقاً سيمنعوننا عنه ويرغموننا على السكوت عن أشياء كثيرة تؤلمنا؟ "ما يحدث في المنزل يجب أن يبقى فيه"، يقولون. أحداث نتعلّم أن نتستّر عليها خوفاً من "الجرصة". يتحول الجميع إلى شرطة تحذرك من الكلام. "غسيلنا" لا يجدر بنا نشره على الملأ.

**

المرّة الأولى التي تكلمت فيها عن الموضوع كانت في الجامعة. كان يجب أن نكتب قصة نقوم بتمثيلها عن حادثة موجعة حصلت معنا، أو مع آخرين، وأثّرت بنا.

كانت فرصتي الأولى، وقررت أن أستغلها. كتبت. أجريت تعديلات كثيرة خوفاً من أن يفطن أحد إلى أنني أكتب عن نفسي. كان علينا أن نقرأ نصوصنا أمام الجميع. أذكر جيداً كيف كان صوتي يختنق وأنا أقرأ. أن تملك فرصة الكلام عن أمر مؤلم أُجبرت على السكوت عنه لسنوات ليس بالأمر السهل. مربكٌ الأمر. كأنك تتعرى أمام الجميع. لا أعرف كم احتجت من الوقت لأستطيع إكمال النص. بدا لي أن قراءته استغرقت ساعات.

رافقني الألم طيلة فترة تمرّني على تمثيل النص. كنت أبكي في كل مرة، كأنها الأولى. ألمي كان يصل إلى الذروة في المشهدِ الذي أخبر فيه أمي، فلا تصدّقني. وهو ما أزعجَ أستاذي، فقاطعني في إحدى المرات عند هذا المشهد وسألني: "أيهما مؤلمٌ أكثر، الفعل نفسه أو أن أمّك لم تصدقك؟".

بالنسبة إليّ، عدم تصديق أمي لي، كان هو المأساة الأشد. لم يعجبه جوابي وصرخ بي غاضباً. "غلط! إذا حدا دقّ باصبعك وإنت ما بدك، لازم يزعجك أكتر من أي شي!".

كيف أشرح له أن التشكيك يؤلم أكثر، ودعم المحيطين يخفف هول المأساة ويجعلها تمرّ بأذى أقل، وأن لا أحد يحقّ له أن يمليَ علينا أحاسيسنا أو أولوياتنا؟

طوال هذه السنوات وحتى اليوم، يؤلمني ويستفزني من يسكت عن التحرش ويبرر له، أكثر من المتحرشين أنفسهم. في كل مرة يتم التشكيك بفتاة تتكلم، أشعر أن الأمر موجه لي شخصياً. يعود الألم نفسه. أتذكر المشهد، أعود طفلة أصرخ وأبكي "صدقيني مش مروبصة ولا عم هلوس".

**

لم أكن أكذب، لكن أمي أصرت على أنها أحلام وتهيّؤات. شككت بنفسي، ولاحقاً حين كان يكرر الأمر معي، صرت أتظاهر بالنوم. ولسنوات كثيرة لاحقة لم أعد أتكلم ولم أعد أنام.

حين بدأت قريبة لنا بالتحرش بي، التزمت الصمت أيضاً، من يصدقني؟ قد تكون تهيّؤات هي أيضاً. ظننت أن المشكلة مني وإلا لماذا لا يتوقف الجميع عن التحرش بي؟ ولماذا حاول صديقي لاحقا اغتصابي؟

سنتعلم الصمت. كل مرة لسبب. المرة الأولى خوفا على أعمدة منزل قد تنهار. المرّة الثانية  لكي لا نُلام. الثالثة لأن أحداً لن يصدّق. الرابعة خوفا من جريمة محتملة. الخامسة كي لا نخسر وظيفتنا... المرة المليار لأننا تعوّدنا، وتعبنا.

تناسيت الموضوع، تجاهلته. سنوات كثيرة مرّت. ظننت أن الأمر انتهى، وتجاوزته. لكن كيف أستطيع الشفاء من وجع مزمن؟ كيف أنسى ومئات الحوادث المشابهة تحصل معي ومع غيري بشكل شبه يومي؟ كيف أنسى وما حصل كان سبب هاجسي الأكبر؟ ماذا عن خوفي من الليل، والصراخ أثناء النوم؟ مَن يعوض عليّ ليالٍ لا تنتهي من الكوابيس؟

لسنوات طويلة كرهت جسدي، أليس جسدي هو السبب؟ نعم حقدت عليه. أمّا الجنس، بالنسبة لي، فكان أمرا مخيفا ومؤلما. انتهاك آخر لجسدي، لا أستطيع حياله شيئاً وأرغم نفسي على القيام به.

عمري الآن تسعة وعشرون سنة. احتجت إلى سنوات بدت أنها لن تنتهي، والعديد من جلسات العلاج النفسي. اليوم يمكنني أن أقول إن الجنس لم يعد مشكلتي. منذ بضعة أشهر فقط، اكتشفت أنه يمكن للجنس أن يكون ممتعاً، وأنه يمكنني أن لا أشعر بالخوف أو الخطر إذا لمس أحدهم جسدي. بل أنه يمكنني أن أسعد بذلك وأرغب به. لم أعد أتقيأ بعد الجنس، حتى أن مشكلة "العصبي بالمعدة" والتقيؤ اليومي، التي قال الأطباء إن لا علاج لها، لم تعد موجودة أصلا.

أقف أمام المرآة عارية، أحدّق بجسدي، أتأمل كل تفصيل به، أنتبه فجأة إلى أنه ليس قبيحاً.  على العكس، أجده جميلا، وجميلا جدا. لماذا عاقبته على ذنب لم يرتكبه أي منّا؟ أندم على سنوات كرهي له. كان سوء تفاهم. أعتذر منه، تتساقط دموعي، لم يكن ذنبه، لم يكن ذنبي.

يمكننا دائماً أن نختار الصمت. وهذا الخيار من الممكن أن يكون مفيداً للجميعِ عدانا نحن المتضررون. الصمت يجعلنا نراكم عقدنا إلى أن يستحيل التخلص منها. يمكننا أن نغضب ونشتم في جلساتنا مع الرفاق، سنرتاح قليلاً. لكن الغضب وحده لا يكفي. الألم لا يختفي، لكن بإمكانه أن يخفّ، في كل مرّة نقوله أو نكتبه. لا يوجد ما هو خاص وما هو عام، العنف الجنسي ليس حالة فردية.

هذا الكابوس لا يمكن أن ينتهي إن لم نبدأ جميعنا بالبوح. فلنطرق رأس هذا الكون الذي يصمّ أذنيه عمداً، ولنخبر ناسه عن كل مرّة انتهكت فيها أجسادنا وتعرضنا للعنف الجنسي. ليسمِّ كلّ واحد، هكذا ومن دون مقدمات، جميع من اغتصبوه أو تحرشوا به. فلنبدأ من الأقرباء: "أبي اغتصبني، أخي تحرش بي، عمي اغتصبني، خالي تحرش بي، عمتي تحرشت بي...".

تعالوا "ننشر غسيلنا" على الملأ. هي ليست "جرصتنا". لسنا نحن من يجدر بنا الخجل. هذه جرائمهم، فليخجلوا هم بها.

**

Publisher: 

Sawt al' Niswa

Section: 

Category: 

Featured: 

Popular post

Our portfolio

We wouldn't have done this without you, Thank you Bassem Chit - May you rest in power.

Copy Left

Contact us

Contact Sawt al' Niswa via:

You can also find us on: