أولاً: 1970
صراع محسومة نتيجته
في كتاب فريد، جمع فيه الطبيب النفسي ج. راسي[i]، ملخّصات لدراسات عربية نُشرت، في كتب ومقالات، في الفترة التي سبقت السبعينيات من القرن الماضي، نجد في مطلعه وصفاً لزائرة "نموذجية" لعيادة طب- نفسية في بلادنا.
في ما يلي، ترجمة شبه حرفية من اللغة الإنكليزية لهذا الوصف، كنتُ قد أثبتُّه في مقدّمة كتاب لي صدر في العام 1998[ii] .
الزائرة النموذجية
((المريضة عزباء، في الخامسة والعشرين من العمر. تلج عيادة الطبيب النفسي مرتدية ثياباً جذّابة ومتناسبة مع أحدث الأزياء. تسريحتها مرتفعة وزينة وجهها تنّم عن ذوق عالٍ، وتفوح منها رائحة العطر الباريسي. تدخّن لفافة أمريكية وتتكلّم بلهجة واثقة. تدخل الى صلب الموضوع رأساً. لغتها المفضّلة للتواصل هي مزيج من الإنكليزية والعربية، يتخلًلها جمل قصيرة بالفرنسية. تتكّلم العربية للتعبير عن الأفكار الغاضبة أو الطريفة.....
((ومع أن شكواها هي في الاصل جسدية مبهمة (أوجاع رأس، ضعف عام، وِهْن)، فإنها لا تلبث أن تستبدلها بأخرى انفعالية (فقدان الهدف، مخاوف غير محدّدة، معنويات منخفضة، شعور بالنّزق يتبعه غضب أعمى)...يحتاج الأمر إلى ثلاثين دقيقة لتحديد المجالات المأزمية الرئيسية: الزواج والعمل. ففي حين دعمت أسرتها دراستها الجامعية وشجّعتها على إتمامها، تقوم، حالياً، بوضع العراقيل أمام خياراتها المهنية. ويشمل ذلك منعها من العيش بمفردها أو العمل في مدينة أخرى، غير التي يعيش فيها الأهل، أو البقاء خارج البيت بعد الغروب، أو الخروج ليلاً، أو العمل في مجالات الفنّ أو المسرح أو الموسيقى أو الترفيه! يسمحون لها، بالمقابل، بالتدريس في عدد من مدارس الفتيات، أو العمل كسكرتيرة في مؤسسة لدى قريب لهم. وهي تجد العمل في هذَين المجالَين مضجراً إلى حدّ يصعب إحتماله.
((وما هو أكثر إثارة للاضطراب هو موضوع الزواج: فوالداها غاضبان بسبب رفضها عدة عروض مناسبة للزواج، خاصّة وأنهما يعلمان، (ولا يوافقان أبداً)، أنها على علاقة عاطفية بشاب من مدينة أخرى. هذا، من جهته، زميل لها في الدراسة، متعلّم وطموح، لكنه فقير الحال؛ وهو أيضاً مسيحي وقومي غيور. هي تحبّه، وهو يُبدي إنجذاباً نحوها، لكنها تعلم أنه يعاشر فتاة أوروبية ذات سمعة مشبوهة، وتساورها الشكوك بأن "علاقة ما" تربط الاثنين؛ ومأزقها هو التالي:
((هل تسمح لنفسها بمغامرة جنسية مع هذا الشابّ لتجذب اهتمامه، فتجازف باحترامه لها كفتاة "مستقيمة"؟ أم أنه ينبغي لها أن تبقى متحفّظة فتجازف باهتمامه بها؟ هل تجرؤ عل معارضة رغبات والدَيها فتثير غضبهما، أم الافضل لها أن تنسحب من أرض المعركة، وأن تخضع لهما، وتواجهن إثر ذلك، ذلك مستقبلاً مبهم الملامح؟))
بين الحداثة والتقليد
يعقّب راسي على وصفه لهذا الحالة "النموذجية" هكذا: "إذا كان هذا الوصف يشبه، إلى حدّ الابتذال، رواية عاطفية من روايات القرن التاسع عشر، فذلك لأن المرأة الشابّة في الشرق العربي ما تزال تعيش، جزئياً، في الماضي. هي لا تزال غير واثقة من الطريق التي ينبغي لها أن تسلك...". وهي تجسّد، برأيه، المآزم النفسية الناجمة عن تبدّل الأدوار الاجتماعية، وما يرافقها من اعتناق مجموعتيَن متناقضتَين من القيم: قيم الحداثة وقيم التقليد؛ وهو يرجّح، أخيراً، أن خيارها سيكون الرضوخ للتقليد، لأن ما يوجّه هذا الخيار هو، في نهاية الأمر، تفضيل الرجل الذي يُبدي تحفظاً حيال المرأة المتعلّمة. فالمرأة المتحرّرة، يقول راسي، قد تحصل على بعض الإشباعات من حريتها الجديدة، إلّا أنها ليست في موقع جيّد للمساومة في سوق الزواج (كذا!).
إن راسي، في وصفه للحالة النسائية النموذجية التي تلتمس المساعدة النفسية، لا تفوته التفاصيل المتعلقة بالشكل الخارجي: الزيّ، تزيين الوجه، الشعر، العطر، يضيف إليها اللهجة الواثقة، التدخين وتعدّد اللغات. هو لم يهدف من وراء هذا التفصيل إلى إبراز ما يسمى بالتعبيرات غير اللفظية – وهي هنا لغة الجسد – التي تعلن ما تودّ المريضة أن تخفيه، ولا هو يقارن هذه اللغة بعلامات معيّنة، مُدرجة في لائحة التصنيفات التشخيصية التي يعتمدها، لتساعده في مهمّته التشخيصية. هذا الوصف غايته إبراز دلالات، لا تخطئ، لانتماء هذه المرأة – المُلتمِسة إلى "عالم الحداثة". ولا يقتصر الأمر على المظهر والسلوك بالطبع. فالمرأة نالت قسطاً من العلم يؤهّلها، من حيث المبدأ، لأن تكون مستقّلة وسيدة قراراتها، وهو المظهر الأعمق للحداثة. لكنها تُجابَه بجملة عوائق تعود فتسلبها كل تضمينات التأهيل العلمي الذي أتيح لها: خيارات الحب والعمل، (ركيزتَي الصحة النفسية بحسب فرويد، يذكّرنا راسي). وهي" خيارات" يعيّنها التقليد على نحو صارم، لأنه يعود فيجعل القوانين الذكرية المتحكّمة بـ"سوق الزواج" هي القوانين الأبلغ تأثيراً في صياغتة خياراتها النهائية.
ويقف راسي، في رواية الحالة المذكورة، عند هذا الحدّ. وكأن زواج الشابة ضرورة بديهية، أو حائط تصطدم به كل الرغبات الأخرى مهما بلغت شحنتها من الطاقة النفسية. وهو ما يتضمّنه موقف المرأة الشابة التي تلتمس العلاج النفسي، وأيضاً موقف المعالج/الطبيب. فالمرأة، بالتماسها عناية الطبيب النفسي اللبناني، (العربي) تطلب تأكيداً لمُعاشها الذي يعرفه الطبيب جيداً، لأنه هو، أيضاً، يعيش حالة شبيهة – وإن بحدّة أقل- هي الصراع بين الحداثة والتقليد. وهي تلتمس أيضأ حجّة لــ"تخاذلها" بالرضوخ أمام رغبات ووالديها والتقليد، لأنها بدونه، (أي الرضوخ) – تخسر رصيدها في "سوق الزواج" حيث لا تملك المرأة أن تكون "بضاعة كاسدة"، وهو ما لا يختلف عليها "اثنان". و "الاثنان" في هذه الحالة، هما المريضة والطبيب معاً، تحيط بهما الأطر المرجعية، الأحادية اللون والثقيلة الوطء". ( انتهى الاقتباس من مقدّمة الكتاب).
ثانياً:1993 [iii]
تجاذبات ومفارقات
لكن كيف تبدو زائرة العيادة النفسية بعد أقل بقليل من خمس وعشرين سنة- زمن إجراء دراستي المثبتة في كتابي المذكور أعلاه؟ ما هو إطار المهنيين النفسانيين المرجعي في مسار التعامل مع زائراتهم؟
ملتمسات العناية النفسية
كتابي صحة النساء النفسية...، حوى بين دفتيه دراسة ميدانية تشكّلت بعض عيّناتها[iv]من أطباء ومحلّلين ومعالجين نفسيين ومرشدين نفسانيين ممّن حسبتُهم مؤتمَنين على صحة النساء النفسية عندنا. هؤلاء وفّروا لي معلومات حول زائرات عياداتهم شملت أحوالهن، والغاية التي يتوخينها من التماس العلاج النفسي لديهم[v]. ولما كنتُ أحسب أن مفهوم الصحة النفسية يُنتَج في مجتمعاتنا في إطار الوضعيات العلاجية، وأن الديناميات التي تحكم الوضيعة العلاجية، ووُجهة مسار العلاج والغاية منه، ذات صلة، جميعها، باتجاهات هؤلاء المهنيين ومعتقداتهم وخلفياتهم المعرفية والقيمية، طلبتُ إليهم التأمّل في اختباراتهم العلاجية من أجل تحديد العوامل ذات الصلة بثقافتنا الاجتماعية المؤثّرة في إذكاء الضائقة النفسيىة، أو المرض النفسي لدى النساء. وحصّلت منهم، إلى ذلك، مفهومهم للصحة النفسية، والتصورات التي يحملونها لـ"المرأة الراشدة الصحيحة نفسياً"، كما لمواقفهم من قضايا المرأة في المجالات التي كانت "الطليعة" النسائية منشغلة[vi]بها، في ذلك الوقت.
زائرة العيادة الطب - نفسية التي وصفها ج. راسي امرأة تعيش صراعاً بين الحداثة والتقليد؛ والمضـمر في تحليله أن ما يحسم الصراع الذي تعيشه هذه المرأة، هو رغبة أساسية بالانتماء إلى الثقافة الاجتماعية المتمثّل بكونها متزوّجة، أساساً، وقابلة بمتطلبات التقليد ثانياً؛ هو التقليد المحدّد بصرامة دائرة اختيار موضوع الزواج، وأيضأ دائرة مجالات النشاط ( المهني، مثلاً). ويتعرّف المهنيون المستجوَبون في دراستي، على صراع شبيه يعتمل في صدور زائرات عياداتهم، (واكثرهن متزوجات)، لمسه أكثرهم في استبدان somatizationيشير إلى رغبات متجاذبة ambivalent بين التكيّف مع المحيط الاجتماعي- الثقافي، وبين رفض إملاءاته القامعة لتعبيراتهن الفردية . العازبات أيضاً، وهن أكثرية لدى المعالجين بالكلام، يعانين من غياب الشريك – جواز اندماجهن الثقافي الاجتماعي، ومانعاً لهامشية، يعِشن مترتباتها بضائقة نفسانية، لا تخلو من تعبيرات جسمانية ( استبدان) ، تفوق الاحتمال.
تشخيص
في تشخيصهم لأسباب الضائقة النفسية التي تعاني منها النساء، ملتمِسات مساعدتهم النفسية، مال أكثر المهنيين إلى إلقاء اللوم على ثقافتنا الاجتماعية التمييزية ضد النساء. هذا التمييز يتجلى، خاصة، في تنشئتهن على التلقّي والخنوع، ويؤسّس لشخصية سلبية تمنع عن المرأة الفعل في واقعها، وتجعلها غير مؤهلة للتعامل مع ضغوط الحياة، والتكيّف مع متطلباتها. هذا التشخيص يتبنّاه المهنيون المعالجون بالكلام الذين لمسوا لدى هؤلاء النساء قبولاً بدونيتهن المفترضة، و"لا – حيلة" متعلّمة learned helplessnessأوقعتهن في الضائقة النفسانية، التي وجدت تعبيراتها الأكثر تواتراً في الاستبدان – في أوجاع جسدية متنقّلة تخفي الالام النفسية المتنوّعة. ويشاركهم في ذلك التشخيص الأطباء النفسيون، والمغالون في اعتماد "المثال الطبي" للمرض النفسي، ضمناَ؛ هؤلاء يجدون في تكوين الشخصية النسائية النمطية مانعاً عن "إدارة" مرضهن النفسي، (الجيني المصدر- غير القابل للشفاء النهائي)، وسبباً في استطالة أمد المرض، أو في تكرار الوقوع فيه.
ويحمل المهنيون النفسانيون، نساء ورجالاً تصوّراً للمرأة الصحيحة نفسياً لا يشبه النموذج النسائي المرغوب اجتماعياً، ولا التصوّر الذي تحمله أكثر النساء عن ذواتهن بل هو أكثر شبهاً بالنموذج الرجالي المرغوب اجتماعياً؛ وذلك وفق نتائج رصدتها بعض الأبحاث[vii]المعنية بالمنمّط النفس - اجتماعي المرسوم لجنسهن. وكأنهم يقولون، ضمناً إن العالم، وإن صار راهناً، متاحاً للنساء بعد أن كان حكراً على الرجال، لكن متطلبات العيش فيه ليست مناسبة للنساء، لأن بنيتهن النفسية التي تكوّنت بفعل التربية التقليدية التي نشأن عليها، لا تؤهلهن للعيش فيه؛ لذا، فإن صحتهن النفسية لا تتحقق فيه إلا إذا تشبّهن بالرجال[viii]!
.... وعلاج
كيف يتجلّى ما سبق في في سلوكات المهنيين النفسانيين العلاجية؟
في تلخيص لما جاء في كتابي، أن موقف هؤلاء الداعم لقضايا المرأة، وتصوراتهم للمرأة الصحيحة نفسياً، والتأويلات التي تقدّموا بها لمسببات المرض أو الضيق النفسي الذي ينتاب زائرات عياداتهم.... كلها لم تكن مؤثّرة في الأسلوب الذي اتبعوه في علاجاتهم، ولا في النتيجة التي يتوخّونها من ذلك العلاج:
فـالأطباء النفسيون، مثلاً، يعالجون أساساً بالعقاقير وهدفهم إزالة العوارض المرضية، والعودة بالمريضة إلى الحالة التي كانت عليها قبل وقوعها في المرض. وتستوي، في عُرفهم، الصحة النفسية بالسواء وبالتكيّف وبالتأقلم مع ضغوط المحيط الأسري والمجتمعي. بل يدّعون أن المرأة الملتمسة لا ترغب بأكثر من ذلك. وفئة منهم تذهب إلى التحذيرمن "المغالاة في العلاج"، بل الاكتفاء بتهدئة العوارض في هدنة لا تلبث بعدها أن تعود من جديد لأن العوامل التي أثارتها ما تزال متأصّلة في بنيتها النفسية. ويبرّر هؤلاء تقاعس أهدافهم العلاجية عن مواقفهم وتصوّراتهم بالإحالة إلى واقع المرأة / الملتمِسة الاتّكالي، ويعلنون عن عجزهم – كأطباء- عن تعديله؛ فيُحجمون عن دفع المرأة إلى ما وراء حدوده المرسومة والمعروفة في إطار المنظومة الجندرية.
أما "المعالجون بالكلام"، فأكثرهم يتخذون مواقف محايدة تجاه رغبات الملتمِسة المعلنة، ويتركون لها مهمّة تحديد نهاية العلاج، معتمدين تقريرها الذاتي her self-reportعن الرضى النفسي عما آلت إليها أحوالها، محترمين الحدود التي وضعتها لنفسها في مناهضة الواقع، المسبِّبة ضغوطه، لضائقتها النفسية، عاملين على تحييد تشخيصهم لأصول العلّة النفسية في مريضاتهم. هم واعون كون استبدانها لمصاعبها يخفي رغبات مكبوتة، لكنهم، باستثناء المحللين النفسيين، يحصرون نشاطهم العلاجي بما يطلقون عليه "إعادة تربية الملتمِسة"، أو "إعادة إنشاء" شخصيتها، بقصد التعامل مع واقعها بالطريقة التي ترتئيها هي.
الواقع المهيمن
هكذا، يستوي الواقع الاجتماعي الثقافي ،المنظومة الجندرية ضمنها، وبالرغم من إملاءاته المسبّبة لضائقة النساء النفسية، العامل المؤطّر للعلاج ولمآله: يتفادى الأطباء النفسيون الصدام معه، رفقاً بإمكانات المريضة المحدودة، ويعمل المعالجون بالكلام على مرافقة الملتمسة بحيادية في سعيها للتعامل مع ذلك الواقع وضغوطه. هذا الواقع يجتاح هذه الوضعية ويقع تحت وطأته المهنيون، أسوة بالملتمِسات؛ هذا الواقع الذي لا يترك هامشاً خارج المنظومة الأبوية، ولا ثغرة في بنيانها، من أجل التعامل مع هذه المفارقة: مفارقة استواء متطلبات الواقع مسبِّبة للضائقة النفسية النسائية والاستجابة لهذه لمتطلبات والتكيّف معهاعلاجاً لها، في الوقت نفسه.
على أن إنشاء ذلك الهامش من المنظومة الجندرية (واستطراداً في الخطاب النفساني العام) وإحداث ثغرة في المنظومة الجندرية، لا يُسأل عنهما المهنيون النفسانيون، أكان هؤلاء نساء أم رجالاً. هذه الثغرة، وذلك الهامش، أوجدتهما في المجتمعات الغربية، مثلاً، حركة نسوية تغلغلت في كل أنشطة المجتمع ومؤسساته، المهنية والأكاديمية ضمناً، وقامت بتفحّص الوضعيات العلاجية وتضميناتها النظرية والإيديويلوجية بعدستها الخاصة، وما تزال تناضل لتغييرها من الداخل عبر المعالِجات والطبيبات النفسيات النسويات أنفسهنّ.
الاستبدان والتعبير الصريح
يؤكد النفسانوين أن الاستبدان لا يزال الشكل الطاغي لتعبيرات الباثولوجيا النفسية النسائية عندنا؛ فهو التعبير المُباح عندنا لأنه ما زال يلقى الانتباه والعناية من محيط المرأة، فيؤدّي بذلك وظيفة التعبير المداوِر للرغبة، ويساهم أيضاً في الحفاظ على الترتيب الجندري القائم، بوسيلة أقلّ كلفة في الاقتصاد النفسي، للمرأة ولمحيطها، من التعبير الصريح.
والتعبير الصريح لا يملك عندنا، على أي حال، أبجديته بعد؛ إذا لا تزال الأصوات النسائية محشرجة[ix]وحذرة في إعلان حقوق مدنية، فكيف برغبات مثيرة للجدل في أقل تقدير؟ ما نحاول قوله هو إن "التعبير الصريح" بديل الاستبدان – لا يُباشَر بالبحث عنه إفرادياً؛ وقياساً على ما حصل في الغرب، فإن حركة نسوية هي شرط ملازم لذلك. وهذا يفترض، برأينا، أن تقبل بعض النساء "الطليعيات"، ببعض الهامشية، وإن ظرفية، إزاء الثقافة الاجتماعية ومؤسساتها وقيمها ومنمّطاتها إلخ... ليبحثن عن "الذات" النسائية الفردية، باعتبارها خطوة أوّلية للتعبير الصريح عن تلك الذات.
ولا نقول إن واقعنا، بما يطول إلى موقع المرأة في العلاج النفسي، ما يزال ثابتاً عبر الزمن، بل هو يتغيّر، وإن بشكل رهيف. فلو تأمّلنا، مثلاً، النُظارية voyeurismالفجّة التي قابل بها الطبيب النفسي، (في رواية ج. راسي)، زائرته، في أواخر الستينيات، عندما قام بوصف تفاصيل مظهرها الخارجي طولاً وعرضاً لبدَتْ لنا عفوية، ولا تشي بتحفّظ من يخشى وقْعَها في أذن من قد يؤذيه هذا الكلام. وهو ما لا "يجرؤ" أحد في أيامنا هذه على القيام به. فالوصف المذكور إنما يعبّر عن نظرة رجالية عارية. وهو ما لم يعد مقبولاً، لأن المرأة أصبحت تملك، وإن جزئياً، "نظرتها" هي؛ وتعلن "طليعتها"، من قيادات نسائية أو أكاديميات أو مثقفات، أنها لا تقبل أن تُختزَل إلى جسدها ومظهرها. ونحن لم نلمس، في أيّ من الحالات التي رواها المستجوَبون في دراستي، تشييئاً objectification على هذا القدر من الفجاجة.
يبقى أن المعالِجات والطبيبات عندنا، قد لاحظن أن النساء مازلن غير مستعدات للتحرّر من المنمّط المفروض عليهن، وأن حثّهن على "النضال" باء، غالباً، بالفشل. فالتماس المرأة العناية للنفسية، كما يراها المؤتمنون عليها، لا ينطوي على البحث عن حلّ حقيقي. وذلك، لأنه يسعى، غالباً، إلى استبدال سلطة بأخرى، تستعيد معها الملتمِسة سلوك الاتّكالية، في تكرار يصعب كسر دورانه من داخل الوضعية العلاجية، أو بمبادرات فردية من المعالِجة، أو من الملتمِسة نفسها. وفي غياب حركة نسوية مراقِبة لمجريات الوضعيات العلاجية من الخارج، وداعمة للنساء ملتمِسات العناية النفسية داخلها، فإن المهنيين النفسيين المختصّين لا يدّعون أنهم قادرون على تجاوز الحدّ الذي يرسمه تطلّب النساء أنفسهن. لذلك، قلّما يعملون أكثر من مساعدة النساء على التأقلم والتكيّف مع عالم الرجل الضاغط، خشية أن يصبحن معالجات على نحو مبالغ فيه! (انتهى تلخيص بعض ما جاء في خاتمة كتاب صحة النساء النفسية....(
ثالثاً: 2017
القول أصبح لهنّ
الممكن والمتاح
في دراستي التي استندتُ إليها كي أصف بعض ما يحيط بصحة النساء النفسية منذ حوالى خمس وعشرين سنة، اخترتُ البحث عن تلك الصحة بتوسّط المؤتمَنين عليها من المهنيين النفسانيين[x]. لم يكن "خياري" نسوياً، وإن كنتُ أدّعي النسوية هوية لي كباحثة؛ جاء ذلك، وفق ما ذكرتُ في وصف عيّنة دراستي، في إطار "المُمكن والمُتاح". كنتُ غير غافلة بالطبع أن المهنيين هؤلاء، ومهما بلغت درجة التعاطف الوجداني لديهم مع النساء، لا يحسنون تقديم الموضوع من وجهة نظر ملتمِسات مساعدتهم لمجريات الوضعية العلاجنفسية وبما يحيط بها، وأن الإصغاء إلى "صوت النساء" أمر حرِجٌ لإجراء بحث، يُعوّل على نتائجه، في صحة النساء النفسية.
تعبيرات راهنة
بعد خمس وعشرين سنة، تدعو "صوت النسوة " و "مشروع الألف"، في هذه النشرة، النساء إلى الإدلاء بأصواتهن لوصف اختباراتهن في مجال الصحة النفسية، وأفكارهن حولها؛ هي دعوة صريحة سبقتها، برأيي، دعوات مضمرة:
ألا تنطوي دعوة النساء إلى الشهادة حول العنف الذي يتعرّضن له داخل أسرهن بمثابة دعوة للكلام حول مآسيهن/ صحتهن النفسية[xi]؟ وحين تعلن المنظّمات النسائية عن برامج للاستماع، وعن توافر مهنيين نفسانيين في مقرّاتها من أجل ذلك، فإن تعلن أنها ستصغي إلى النساء بآذان "غير حيادية"؛ لأن هذه المنظّمات تعمل من موقع رافض للعنف والتمييز المطبّعَينnormalized عندنا وتحسبهما ركنَين مسبّبين للضائقة النفسية[xii]. إلى ذلك، حين يُوثّق كلام هؤلاء النساء ويُعلن على الملأ الثقافي والإعلامي، إن في شهادات تفصيلية أو في تعبيرات فنية أو في دراسات هادفة، إلى ما هنالك من وسائط ثقافية، فهذا ينطوي، وفي ما يهمّنا هنا، على مفاهيم للمرض والصحة النفسييَن وسبيلاً لإدماجهما في بعض الكلام المتداول في العام. (ولعلّ الكلام/ "الهمهمة" حول الجنسانية، من منطلقات حقوقية، أو غير ذلك عندنا، يشكّل هو أيضاً مدخلاً إلى الكلام عن الصحة النفسية).
نذكّر أن مفهوم "الصحة النفسية" لا يُعدُّ "علمياً"، بل هو من عداد المركّبات الثقافية؛ هو ليس، إذاً، من اختصاص المهنيين، حصراً. لذا فإن إسهام النساء ( والحركة النسوية أساساً) في صوْغ هذا المفهوم بمثابة كسر لهيمنة من بيدهم سلطة التسمية والتعريف والتشخيص، وغير ذلك مما يحيط في الوضعيات العلاجنفسية في مجتمعاتنا الأبوية، والإفساح في المجال لفئات هُمِّشت سابقاً عن المشاركة في ذلك الصوْغ.
تساؤلات
أحسب أن الدعوة للإسهام في هذه النشرة لا تقف عند حدود التفريج catharsisللمشارِكات في كتابتها، بل تندرج في سياق"مشروع" يسعى لتكوين خطاب نسوي حول الصحة النفسية.
أتساءل:
هل تحمل "صوت النسوة" و "مشروع الألف" تصوّراً، وإن أولياً، لهذا المشروع الافتراضي؟ ماهي ملامحه؟ هل يستلهم في مسار تكوينه نماذج نسوية أخرى؟
ما هو تصوّرهما لاشتمال أصوات النساء الشاكيات من الضائقة النفسية/ المرض النفسي؟ هل نطمح، مثلاً، لإنشاء نظام تشخيصي "ودود" للمرأة؟ وهل سنبحث في أنماط علاجية بديلة؟
من هي الفئات المرشّحة لمتابعة المشروع الافتراضي؟ هل تُستدعى العاملات المهنيات ( أو ربما العاملين أيضاً؟) في الصحة النفسية عندنا، مثلاً؟ هل للأكاديميات وللباحثات في الموضوع، راهناً وسابقاً، مكان فيه؟
هل ترى "صوت النسوة" و "مشروع الألف" أن الموضوع نسوي حصراً؟ أم أن الناشطات في المنظمات النسائية التي تنفّذ برامج علاج نفسية للنساء، (حتى اللواتي لا يعلنّ عن نسويتهن ) ... هل هذه المنظّمات معنية بهكذا المشروع؟
هذه التساؤلات، لا يبدو لي طرحها متسرّعاً:
منذ أكثر من عشرين سنة، رُفع شعار "النظر إلى العالم بعيون النساء". النظر إلى الصحة النفسية بعيون النساء حان وقته (أليس هذا ما تقترحه علينا "صوت النسوة"؟).
وبعض مداخل "النظر" يسعها أن تكون، برأيي، الوضعيات النفس-علاجية التي ما تزال أنماطها والفاعلين فيها تتكاثر عندنا، وما تزال الفئات النسائية المستفيدة من توافرها تتسع بفعل عوامل مختلفة، لعلّ الحروب المتناسلة، وتداعياتها على ناسنا في هذه المنطقة، من أهمّها.
[i]Racy. J., (1970), psychiatry in the Arab Middle East, Copenhagen, Acta Psychiat. Scandinavica, Supp. No. 211, p.76-77.
[ii]ع.ش. بيضون، ( 1998)، صحة النساء النفسية بين أهل العلم وأهل الدين، دار الجديد، بيروت. يمكن استرجاعه كاملاً من بلوغ الكاتبة: www.azzachararabaydoun.wordpress.com
[iii] صدر كتابي صحة النساء النفسية...في العام 1998، وهو أطروحة الدكتوراه المنجزة في العام 1996 (معدّلة جزئياً) ، لكن الدراسة الميدانية المثبنة فيه أُجريت في الفترة الزمنية 1993-1994.
[iv] أتناول من دراستي بعض نتائج االمهنين النفسانيين ("رجال العلم")، دون "رجال الدين".
[v] من هذه الأحوال: السمات الديمغرافية، عوارض الضائقة النفسية التي يشكين منها، الضغوط الحياتية التي يعرّضن لها، دوافعهن لالتماس المساعدة النفسية، وانتظاراتهن من العلاج النفسي. ةتناول البحث أيضاً التسمية التي يطلقها المؤتمنون هؤلاء على عوارض زائرات عياداتهن، ونظام التشخيص الذي يعتمدونه، نمط العلاج الذي يعتمدونه والغاية التي يتوخّونها للملتمِسة من اعتماده،
[vi] من تعبيررات هذه الشواغل كانت الأبرز ما صدر في التقرير الصادر عن اللجنة الوطنية اللبنانية، (1995( التقرير الوطني إلى المؤتمر العالمي الرابع للمرأة( المنعقد في بيجين)، لا ذكر لدار النشر، بيروت.
[vii] " من هذه مثلاً: انظر عزّه ش. بيضون، (1988)، الهوية النسائية الجديدة: دراسة ميدانية في التنميط الرباعي لدى الشابات الجامعيات اللبنانيات، رسالة ماجستير غير منشورة، ويمكن استرجاعها من www.azzachararabaydoun.wordpress.com
[viii] وهذه نتيجة كنتُ قد توصلت ُإليها في دراسة ميدانية أسبق: كلما تشبّعت هوية الشابة اللبنانية بـ"الذكورة" المرغوبة اجتماعيا ً عندنا ، كلّما تدنّت حدّة القلق لديها. مقياس القلق الذي اعتمته تألفت بنوده من جمل تعلن تكيّفاً مع وضعيات يمكن نعتها بـ"الذكرية" (تتطلب عدوانية وأداتية، مثلاً) وتهمل تماماً وضعيات من المجالات المرغوبة اجتماعياً للمرأة ( الحضن والعناية، مثلاً). ( المرجع السابق).
[ix] لا ننسَ أن هذا النص كتب في أواسط التسعينيات- أي قبل انعقاد مؤتمر بيجين الذي أعطى للمنظمات النسائية عندنا دفعاً احتاجت إليه بعد كمون استطال بفعل الحروب اللبنانية 1975-1991.
[x] ومن رجال الدين والمرشدات الدينيات من مختلف الطوائف الذين يمارسون ضرباً من العلاج الديني الشفائي- كما يدل عنوان كتابي الملخّص أعلاه.
[xi] بحسب الدراسات اللبنانية المقطعية cross sectionalالتي تناولت العنف ضد النساء في إطار أسرهن، تراوحت نسبة اللواتي يتعرّضن للعنف النفسي بين 85% و100%.
[xii] هو ما التقطته آذان المهنيين النفسانيين سابقاً، لكنهم أحجموا – كما ذكرتُ سابقاً- عن دفع مريضاتهم باتجاه المعالجة الجذرية للتمييز - بحجة أن ملتمسات عنايتهم النفسية لم يمتلكن بديلاً، من أي نوع، ولا دعماً من أي طرف، يسمح لهن إعلان مقاومة لذلك التمييز.
Publisher:
Section:
Category: