أنا لم أملّ. في الواقع، لم أبدأ بعد.
أتألّم وأتأمّل. ألمّ وألملِم. ألتئم وأتلملَم. أختار الحروف وألعب. ثمّ أتذكّر اللّعبة بعد شرودٍ ذهنيّ وجيز. فأبدأ من جديد. أميل وأتململ. آمل وأملّ. ألاحظ كيف نملّ علاقات، فنشقلب حروفها. ألاحظ كيف نملّ علاقة، كما نملّ وظيفة. "اختر وظيفة تحبّها ولن تضطرّ إلى العمل يومًا واحدًا"، أم "اختر شريكًا تحبّه ولن تملّ يومًا واحدًا". مَن هذا المتواطىء الذي تفوّه بهذه "الإلهامات" وأراد لنا تصديقها؟ سوف تملّ. سوف تملّين. سوف تيأس. سوف تيأسين. سيصيبك الغثيان من جرّاء البثّ المباشر الذي تخاله إعادة، وتكرار شريط الأحداث نفسه الذي يبدو لك أشبه بمسلسلٍ مُبتذَل. ستُتعبك قدرتك على توقّع ما سيحدث بعد ثوانٍ، أو بعد أشهر. صحيحٌ أن الخيبة تقع حين لا تحدث الأمور كما توقّعت، ولكنّها اليوم تلبس معنًى جديدًا بوقوعها الثقيل عليك حين يحدث تمامًا ما توقّعت. ما يحدث هو السيناريوهات نفسها. النقاشات. الاعتراضات. الأدوات. فجأةً وأنت في المنزل، أو في مكتب، أيّ صيغة مكتب، تصدح مقولة "أودري لورد" في رأسك: "أدوات السيّد لن تدمّر بيت السيّد". سُلُطاتنا أسيادنا، وأدواتنا من أدواتها. ولكن، ما البديل؟ يحدث اليوم أن تكون الأدوات هي نفسها تقريبًا. وللأسف، كم من جواهر وكنوز أسرتها ذاتُ الأدوات السياديّة.
في الأفلام البوليسيّة، تستبق العصابة خطوات الشرطة وتلهيها بحدثٍ آخر، بأداةٍ أخرى، فتسعى بذلك إلى تشتيتها واستنزاف طاقتها. تفاجئها. تحوّل أنظارها. فتضرب ضربتها. وتسبقها بخطوة. واحد-صفر! اليوم، لم نعد نفاجئ، لا السلطات ولا أنفسنا. فقدنا حسّ المفاجأة. يعرفون تمامًا ماذا نريد وماذا سنفعل وكيف سنصل، فيما لو سمحوا لنا بالوصول بعد اجتياز عتبة، أو بالأحرى حائط، من أصل ألف. أمسينا على صباحاتٍ متكرّرةٍ وأصبحنا على أمسياتٍ أحلامها الصباحات نفسها.
في أيّة حال، لا نفع للاستسلام. ونحن في الأساس لسنا في فيلم بوليسي. والواقع أكثر تعقيدًا. وأنّ الخيبة الأكبر في هذه المعمعة هي في انعدام المفاجآت وحسب، فيضٌ من الرأفة. فالخيبة الأكبر هي في أنّ نفسك تحدث معها أيضًا. نفسك تتكرّر. فهي، رغمًا عنك وبتواطؤ منك، جزءٌ من المشهد، وفاعلٌ فيه. أمّا اللّطف في هذا القضاء، فهو في قدرة النفس على التفكير والتأمّل في الذات وأفلاكها، والبوح المُكلِف ببنات أفكارها:
الفكرة رقم 1) في الآونة الأخيرة، بدت الأمور مبهمة، وفاقدة للنكهة. فهمت بالطبع أنّ ما صنعناه كنسويّات، لم يكن ليكون لولانا. كم من قضيّة نضجت بإضفاء بعدٍ نسويّ عليها وكم من فضاء يبس بتغييبه. وهذه جرعة تشجيع كفيلة بأن تدفعنا إلى الأمام. ولا اتّجاه لنا سوى الأمام. لكنّ تأمّل المشهد عن كثب خير معلّم، إذ يتيح ملاحظة كيف تدور الكواكب في فلكٍ واحدٍ. كيف تتعدّد الأفلاك، ويبقى الدوران واحدًا. اعتدنا الدوران في أفلاكنا، نحن الكواكب التي تدور في الفلك نفسه. ولكنّنا نسينا أنّ الكواكب تدور حول نفسها أيضًا. تغلغلت ذيول النظام الأبوي بشدّة في معظم الدوائر. جعلت لها زوايا، وخلقت فيها هرميّة بائسة، وشخصيّات مسرحيّة رئيسيّة، لها ما يكفي من مهارات التواصل الاجتماعي، أو الحنكة الفطريّة، أو العناد الأسطوري، لصناعة إسم وعلامة تجاريّة تختصر رؤيتها بها. تمسّكت شخصيّات بمضامين التسويق ونسيت تسويق المضامين وإن أتى على حساب الظهور. تعلّقت شخصيّاتٌ أخرى بعروشٍ معنويّةٍ وماديّةٍ استحقّتها ذات مرحلةٍ من الزمن، بيد أنّ الدوران من حولها وحول نفسها ما برح يجذبها، وهي لم تشبع منه بعد. مسكينة هي. فالجائع أبدًا هو الخائف أبدًا. وعلى الأرجح أنّنا جميعنا جياع. ولا ضرر متأصّل في ذاك الجوع ما دام صاحبه يتقن فنّ إسدال الستارة.
الفكرة رقم 2) في مشهد الأفلاك، إمّا وقعنا في فخّ امتهان تقنيّات الترويج، أو أبحرنا في حلم إتقانها. ومن لا يعتمدها، فهو في أحسن الأحوال مغامر. نسأل ذواتنا الحائرة، كيف لنا أن نوازي بين استحقاقنا لما هو لنا، وفرحنا بمشاركة ما ينبثق منّا، وانتزاع مرئيّتنا من العتمة المُرادة لنا، من دون أن ينتهي بنا المطاف إلى تمجيد الترويج على حساب المضمون، والمرئيّة الإعلانيّة-الربحيّة على حساب مرئيّتنا المنبوذة، ومن دون أن نرسو على الثبات في مواقع حسبناها أملاكًا خاصّة سُجّلت إلى الأزل بأسمائنا، حتّى في بعض الأفلاك الجديدة التي خُلقت لتشبه سابقاتها. بتنا أسرى المواقع والأماكن. والأسر يزيد التنحّي صعوبةً، والتعنّت تعنّتًا، ويضعف طاقة الدائرة الطبيعيّة على التحرّر، فالاتّساع. كلّما جمّدنا أسماءنا في مواقع، ومعها خلّدنا أساليبنا وأحكامنا الجاهزة، ضاقت الدائرة. وحين تتّسع، لا يعني أنّها حكمًا استقطبت ما هو جديد. فالقطبة المخفيّة حريصة على إنجاب التكرار العقيم في أيّ اتّساع، ما لم تغيّر نفسها، وموقعها، وأدواتها، وتمارس مرئيّتها من منظورٍ متجدّد.
فكرة رقم 3) قد نعاني من مرض التعلّق بالماضي، وببقايا فكرة الوفاء للأماكن أو الصيغ. نُطالَب في دوائرنا بشكلٍ من أشكال الوفاء. من الأفراد والمؤسّسات. والحقيقة أنّ الفارق بين الاثنين شبه معدوم. الحقيقة هي أنّ المؤسّسات هي أفرادها، لا إسمها. نُطالَب بالوفاء لأشخاص، لأمجادهم، لأفكارهم التي لا نعود نستوعبها، أو لا تعود تستوعب نموّنا، نحن الذين واللّواتي بدّلنا تبديلا.
فكرة رقم 4) في أيّ عمل نضالي، أو "وظيفة" اجتماعيّة بحتة، يُشترط للنجاح توفّر الصبر، وما يُسمّى بالنفس الطويل والرؤية البعيدة. ولكنّنا غفلنا عن مسألة جوهريّة تسكن في حكمة التمييز بين النفس الطويل والجمود، العاطفيّ والفكريّ، ومعهما الأدواتيّ، وما يرافقه من دفاعاتٍ دفينةٍ شديدة الاستنفار، إلى جانب قيودٍ وظيفيّةٍ تتوارى خلفها موازين قوى تتكاثر طبقات ظلمها بغير المعترفين بوجودها في الأصل. الأنا الجامدة لا تصنع سوى الأفلاك والدوران فيها. والحال أنّنا لسنا فقط جياع. نحن أيضًا عطاش. إلى فضاءات جديدة، أحاديث جديدة، دروس جديدة، فرص جديدة، تجارب جديدة، نظريّات جديدة، علاقات جديدة... وعلاقات قديمة متجدّدة.
فكرة رقم 5) النفس الطويل مع التخلّص من التعلّق، المعجم الجديد مع اتّساع الدوائر، تعدّد التجارب مع تغيّر الأدوات. من منّا مستعدّ/ة لتحدّي حصريّة أدوات السيّد الفضيل، من دون التخبّط في بحر التنظير على مستخدميها؟ من منّا مستعدّ/ة لابتكار أدواتٍ أخرى لا تتحوّل حتميّة البوح بها إلى حتميّة الانخطاف بها ودوائرهاالمغلقة؟ من منّا مستعدّ/ة للقيام بعملٍ لا ينال بركة الإعلام المُزدوج المعايير؟ من منّا مستعدّ/ة لفعلٍ يستحيل نقله مباشرةً على فايسبوك؟ من منّا يتذكّر ما أراد أن يكون قبل أن تأسره عين الآخر وتطحنه أشعّتها التواصليّة-الاجتماعيّة؟ كلّنا "الآخَر "لغيرنا. وغيرنا "الآخر" لنا. وما الجحيم سوى نحن والآخر. وما الخلاص سوى بالذهاب أو العودة إلى المفاجآت، الصغيرة والكبيرة. فلنفاجئهم من جديد. ولنفاجئ أنفسنا أوّلاً.
فنحن لم نملّ. في الواقع، لم نبدأ بعد.
Publisher:
Section:
Category: