من أين أتى كل هذا الحب؟

رسم في برلين ل عمار ابو بكر

من أين أتى كل هذا الحب؟

 نجوى صبرا

 

لماذا انفجر قلبي حباً عندما سمعتُ هتافَ "ندى ندى ناو قومي ضوي الضو"؟ من هم هؤلاء الغرباء لكي أحبَهم بهذا العمقِ؟ 

لا أعرفُ إن كنت أنا من اختبأت كل هذه السنين. لا يمكنُ أن يكونَ هذا الحب وُلدَ في لحظاتٍ من عدم. لكن الطناجر قُرعَت من داخلِ المنازلِ وعلى الشرفات ولم يعد قلبي قادراً على سماعِ صوت العقل.

كتبتُ لصديقٍ خائف من هذه العودةِ المفاجئة للأمل، بعد أن قضينا السنواتِ الثماني الأخيرة نحاربُ أنفسنا للتخلصِ منه، أنه علينا أن نعيدَ تكبيرَ قلوبنا لتسعَه. لكنني كنتُ أكذب. لن أستطيع أن أمتثلَ لنصيحتي. 

"بلا يأسٍ ولا أمل". بلا يأس ولا أمل. بلا يأس ولا أمل. أذكّرُ نفسي، و أفكّرُ بعلاء عبد الفتاح في زنزانته. أتخيله هناك، ربما يقرأ جريدة. ربما تصلُه أخبار لبنان. ثم أتخيلُ أننا بعد بضعة أيام، سنصبحُ قادرين على الامتداد. على الوصولِ إلى القاهرة. خلع باب الزنزانة واحتضانه. هو واحدٌ منّا. 

الأيامُ الأخيرة كانت بمثابةِ تدريبٍ على الإمتدادِ والتوسع. أمتدُّ وسعَ قارةٍ ونصف لأصلَ شوارعَ بيروت. تمتدُ شوارعُ المدينةِ لتسعَني للمرة الأولى. من أين أتت هذه المساحة؟ تمتدُ وتمتد وأجدُ أنني لست وحدي للمرة الأولى. لطالما خفتُ وحدةَ بيروت و أحسستُ بمساحاتِ الإنتماء والمعنى تضيقُ بي لتخنَقني أو تلفظَني خارجاً. يتسعُ قلبي ليسعَ المدينة وكلّ من فيها. أين ذهب كل هذا الغضب؟ هذا الغضب الذي جمعتُه عبر السنين ككنزٍ مدفون، كالوقود الوحيد للاستمرار بالحياة، تفجّر دموعاً بعد أن أكلتُ القليطة في شارع كان النَفسُ فيه يكلّفُ ثمنَ كبدي. 

 انفجرَ الشارعُ وانفجر معه الوجعُ في وجهنا جميعاً. أين كنا نخبئ كل هذا الوجعَ طول هذا الوقت؟ كيف مشينا في الشارع ونظرنا لبعضنا البعض دون أن ننكسرَ؟ أظنه ما جمعنا أخيراً. حكينا قصصَ وجعنا لبعضنا البعض في الساحات وصراخاً أمام شاشاتِ الإعلام التي لا تزالُ إلى اليوم تتساءل: و لكن، ما هي مطالبكنّ؟ لم يسمعوا صراخَنا لكننا سمعنا بعضنا ووجدنا ألفةً في وجعِنا المشترك وتذكرنا. لم يكن قرارُ محوِ وسط البلد بعد الحرب محاولةُ ممنهجة لمحو الذاكرة فحسب، بل كان قراراً بإلغاء مساحاتِ التلاقي والحوارِ العضوية. لكننا اليوم وجدنا أنفسنا وبعضنا في رياض الصلح وساحة إيليا وساحة النور، وكل ساحات البلد،  بل حوّلنا كل طريقٍ مقطوعة لساحة.  

وأنا أوضبُ شنطتي،  احتفظتُ بكيس بطاطا جحا اشتريُته من ساحة العزارية لأعلّقه في غرفتي. لأتذكر. ليبقى لديّ دليل أننا كنّا هنا. للمرة الأولى أنتبه إلى أن كيس جحا عليه رسمٌ لعدنان ولينا. أجد أنه يمثّل الثورةَ بشكل جميل. 

قبل سفري بيوم، نزلتُ أودّعُ الساحاتِ برهبةٍ وحزن: ما الذي سأجدُه عندما أعود؟ أسيمكنني التنقلُ حينها من خيمةٍ لأخرى لأحاورَ غرباءَ أحبُهم بعمقٍ عن كل ما يعني ماضينا و مستقبلنا؟ أستختفي الساحاتُ من جديد؟ يقولون إن هذه الثورةَ حررتنا من الخوف. لكنني لم أكن يوماً خائفةً بقدر خوفي اليوم. لكنني ممتنةٌ للثورةِ على هذا الخوف، فهو خوفُ من لديه شيء ليفقده. 

هو خوفٌ مختلفٌ عما أحسستُ به يوم انهالوا علينا ضرباً ورأيت عائلاتنا تصفقُ لهم. كانوا قد حضّروا المبررات. قلتُ حينها: سيقتلوننا ولن يدافعَ عنا أحد، نحن عملاءُ السفارات، قطّاعُ الطرق، قليلو الأدب. سنموتُ كما الأوّلين في ثوراتٍ سبقتنا ولن يحزنَ أحد. ورأينا بعدها بأيامٍ مطلقَ النار ينظرُ إلى القتيل و يقول له: أيعجبك الدمُ في الشارع؟ لكنني نزلتُ الشارعَ ووجدتُ فيه عائلةً من الغرباء الذين يحبونني بعمق - قبيلتي. كنتُ دائماً أقول أنني أعودُ إلى لبنان فقط للبحر. ولكنني اليوم أعودُ لأهلي. وها هنّ أعدنَ البحرَ لي. 

تقول ماهينور المصري: "نحن لا نحبُ السجونَ ولكننا لا نخشاها". لكن خوفي من العودةِ إلى السجن عظيم! لكن اليوم ثورة، و غداً عيد، ورح نفتح طريق جديد. طريقٌ تتخطانا. سنستمعُ إلى من يقولون أن ما يحصل أكبر منا. سنمتدُ ونمتد، ونصلُ العراقَ والجزائر وتشيلي وكل محافل الثورات… سنبلغُ القاهرة، نقتلعُ بابَ الزنزانة و نحتضن ماهينور. لن يُسجنُ أحباؤنا بعد اليوم.  

 

 

Publisher: 

Sawt al' Niswa

Section: 

Category: 

Featured: 

Popular post

Our portfolio

We wouldn't have done this without you, Thank you Bassem Chit - May you rest in power.

Copy Left

Contact us

Contact Sawt al' Niswa via:

You can also find us on: