قبل تشرين الأول، كان لي فترة أعايشُ وأطبّعُ علاقاتي بلبنان، كما هو، لا كما أريده، وهو أمر مجهدٌ كوني لاجئة فلسطينية، أشعرُ بالاغترابِ عن محيطي اللبناني لدرجةُ بدأت معها بخسارة اللكنة اللبنانية، وقد كنت أتقنُها في الماضي لتجنبِ التنمرّ من زملائي في المدرسةِ الرسمية اللبنانية، وها هي تصبحُ أكثر صعوبة لأني أرفضُ أن أتناسى أنّي مختلفة. بالرغم من ذلك، كنتُ أعايشُ وأطبّعُ هذه العلاقة، وبطبيعةِ الحال ضمن نظام اقتصادي يخدعُنا أحياناً فنشعر أننا مرتاحون ضمنه إذا أصبح معاشُنا يغطي غرفة نوم قرب الحمرا واشتراكاً شهرياً في النادي الرياضي، بدأت أشعر بأنّي أفضل نفسياً وماديّاً. أستطيعُ العيش هنا. لم آخذ مهدئات أو مضادات للكآبة في السنتين الأخيرتين. لم أعد آكل ثلاثة أكياس من الـ"تشيبس" على العشاء كي أوفرّ. ها أنا أوفِّق بين عملي وأصدقائي، بل أجد أحياناً بعض الوقت لكي أقرأ عن الروبوتات وموقف البشرية منها. أعايشُ وأطبّع، وأحاول ألّا أفكر في ما جرى منذ بضعة أشهر.
منذ أشهر، نزلنا في كلّ المخيمات ضد قرار وزير العمل العنصري الذي فرضَ على اللاجئين الفلسطينيين والسوريين شروط الحصولِ على إجازات عمل لممارسة مهنهم. استمر هذا النزول لأكثر من عشرين أسبوعاً، والوجوه ألفناها، هم شبابٌ وصبايا ونساء وكبارٌ في السن، عادت لهم الحياة عندما لاحظوا أنهم حرّكوا الشارع دونَ العودة إلى مراجع أو فصائل، بل حرّكوه في كل المخيمات، من مخيّم الرشيدية في صور إلى مخيّم نهر البارد في طرابلس. حراكٌ شعبي لامركزي، يشبه ما نراه اليوم في الشارع اللبناني، لكن مشكلته الوحيدة أنّه ضمن حدود المخيمات، خلفَ حواجز العسكر، وأحياناً، داخل جدار الفصل العنصري الذي يحاصرُ مخيّم عين الحلوة الذي وافق على بنائه من يدّعي مقاومةَ عدوّنا في فلسطين المحتلة، من أجلِنا.
نهايةُ الحراك قتلها الصمت الذي فرضته كل تلك الحدود. ما يحصلُ في المخيم لا يسمعهُ العالم الخارجي. تنفجرُ الثورة عندنا، ولا يتأثر محيطنا بشيء. اليوم، تدبّ الثورة خارج المخيمات، وتعيش المخيمات مستوى جديداً من التدني في القدرة الشرائية والمعيشية، أقسى من التدني في خارجها. فبالرغم من كل محاولات إبقاء الأسعار ثابتة، فإنها ترتفع، لتذكر الفلسطيني بأنّه جزءٌ من الثورة، بالرغم من كل محاولات الفصائل الفلسطينية لإقصائه عن الصراع اللبناني وإشعاره بأن وجودَه في هذا البلد يمكن أن يكون سياسياً من قِبَل الآخرين فقط، لا من قِبَله أو عبر مشاركته. إذا لم يشعر اللبناني بأنه جزءٌ من حراك المخيمات، فهذا دليلُ تقصيرِ المعارضة في التأثير على الخطاب الشعبي عبر وضعِ العنصرية والتمييز بحق اللاجئين كجزء أساسي من حقيقةِ إضطهاد النظام اللبناني والطبقة الحاكمة للشعب، تحت ذريعةِ حربٍ أهلية بدأنا بتحطيم خرافات استمراريتها(الحرب الأهليىة) منذ ٤٠ يوماً.
مشت مسيراتٌ تضامنية بين أمّهاتِ منطقةِ الشياح الشيعية طائفياً والمحسوبة على الثنائي الحزبي الشيعي، وأمهاتِ منطقة عين الرمّانة المسيحية طائفياً والمحسوبة على أحزاب اليمينِ المسيحي، ليلتقينَ سويّاً، وتُخبرَنا الأمهاتُ أنّه بالرغمِ من تجييشِ الأحزابِ لإعادة شبانهن إلى الشوارع كي يتقاتلوا ويخيفونا من الحرب الأهلية، فإنها لن تعود. بعبعُ الحرب الذي تهددُنا به أحزابُ السلطة لا يرعبُنا كما كان يفعل في السابق. ولن نسمحَ له أن يلوي أيادينا كلّما رفعناها في وجه النظام الطائفي، ولن نسمحَ للطائفية أن تغطي على الإنقسام الطبقي الذي هو الشرخ الحقيقي بيننا وبينهم، نحن الذين نُجبَرُ على دفعِ ثمن سياساتهم المالية التي أفقرتنا وملأت جيوبهم.
كان اللقاءُ مليئاً بالدموع، تماماً كاللقاء الذي جرى بين اللبنانيين واللاجئين الفلسطينيين بعدما سرت مسيرةٌ من بدارو إلى مخيم شاتيلا، لتكسرَ مجدداً وهرة بعبع الحرب الأهلية الذي يلغي إنسانيةَ الفلسطينيين في تلك البقع المعزولة، ولا يسمحُ للبناني إلّا أن يرانا كضحايا بحاجةٍ للإنقاذ أو كخطر وجودي حقيقي، بدلاً من أن يرى تحررنا من هذه الصُور كشرط أساسي للتحرر من الحرب.
هل ماتَ حراكُ المخيمات الفلسطينية؟ لا، قُتِل، لكنّه أحيا فينا شيئاً، أيقظ فينا إيماننا بقدرتنا على المشي فوق جثثِ فصائلنا إذا مسَّنا الجوع. تلك الحقيقةُ التي أيقنها اللبنانيون أيضاً، فبالرغم من كل الخطاباتِ المضادة التي حوّرت المسؤوليةَ من الطبقةِ الحاكمة إلى الثورة، باتَ هناك ما لا يمكنُ التغاضي عنه. صوتُ الزعيم بات أقل صدى، وسيُمشى على جثته عندما يمسُّنا الجوع حقّاً.
قبل تشرين الأول، ردني يأسي من قتلِ الحراكِ الفلسطيني إلى اغترابي مجدداً ضمن الدوائر السياسية التي أنشط بها. لكنتي الفلسطينية زادت حدّة. علاقتي مع لبنان تطبّعت كما هي، علاقة زبائنية. أعيشُ في هذا الأوتيل وأدفعُ فيه ثمن إقامتى، أتوقعُ بعض اللطافة أحياناً، لكني لن أشتري غرفة، ولن أنتمى إليه، ولن أشعر بالإستقرار. لكن منذ نشوب الثورةِ وهذه العلاقةُ في تبدلٍ مستمر، مرهق ومذهل في الآن عينه. أخذتُ المهدئاتِ في أكثر من مناسبةِ عنفٍ وإعتقال، وبكيت كثيراً، أخبرتُ أحدهم أنّي أحبه لأول مرّة رغم قلقي المقيت. وبالرغم من ترديدي بأنّي ضد كل سُلطة إلّا سلطة أمي، أعدتُ النظر في علاقتي مع السلطة بكل أطيافها، وبأنّي إذا أريد أن أقول "لا" فعلاً، فسأقولها لأمي أيضاً. لم يعد يزعجني العلمُ اللبناني كثيراً، فلا أشعرُ كأنه بارودة موجهة ضدّي. كتبتُ عن وجودي في الشارع اللبناني كفلسطينية، وبالرغم من أني لا أنزل بنفسِ الوتيرة منذ ذلك الوقت، لا زلتُ أشعر باستمرارية الثورة، وبأنّي جزءٌ منها كفلسطينية، ولأنّها إذا ركَدت للحظة، ستعودُ تنفجر مجدداً، وستحملُني، وستحملنا جميعاً، ضد تطبيع علاقاتنا السامّة مع لبنان بشكله الحالي، لبنان الحرب الأهلية المستمرة وزعمائه، إلى لبنان يشبهنا نحن.
Publisher:
Section:
Category: